موقف السلطان قلج أرسالن األول من الحملة الصليبية األولى دراسة في عالقة سلطنة سالجقة الروم بالحملة األولى 487 – 500هـ/ 1094 – 1107م

أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات قسم العلوم االجتماعية – كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية جامعة طيبة – المدينة المنورة

موقف السلطان قلج أرسالن األول من الحملة الصليبية األولى دراسة في عالقة سلطنة سالجقة الروم بالحملة األولى 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات قسم العلوم االجتماعية – كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية جامعة طيبة – المدينة المنورة

تاريخ تقديم البحث: 22/ 6/ 1441 هـ تاريخ قبول البحث: 12 / 3 / 1442 هـ ملخص الدراسة: ختتص هذه الدراسة ببيان موقف السلطان قلج أرسالن األول سلطان سالجقة الروم من احلملة الصليبية األوىل، وينهض هذا البحث ابلنظر يف رد فعل السلطان الذي اتسم ابلقلق واحلذر منذ اللحظة األوىل اليت منا لعلمه أخبار الزحف الصلييب حنو بالده، وتشخيص اجلهات اليت أوقفت السلطان على أنباء حتركات احلشود الصليبية وأمدته مبعلومات يف غاية األمهية والدقة عن حتركاهتم، مث تناول البحث احلديث عن اجلهود اليت بذهلا قلج أرسالن حلماية السلطنة من اخلطر الصلييب. ويف السياق ذاته أزيح الستار عن عناصر اخلطة الدفاعية اليت وضعهاقلج أرسالن حلماية عاصمته من السقوط أبيدي الصليبيني، مث تناول البحث ابلدراسة والتحليل العمليات القتالية اهلجومية اليت نفذها قلج أرسالن ضد القوات الصليبية البيزنطية احملاصرة ملدينة نيقية، مث سلطت الدراسة الضوء على العمليات القتالية اليت نفذهتا القوات الصليبية ضد نيقية. فضالً عن ذلك سعت الدراسة إلبراز ما قام به قلج أرسالن لتعويض خسارته أمام نيقية وحماولته التصدي للقوات الصليبية البيزنطية يف ضوروليوم، لكن هزميته جعلته يتحول من اسرتاتيجية املواجهة العسكرية إىل سياسة األرض احملروقة حلرمان اجليوش الصليبية من موارد املناطق اليت ميرون هبا أمالً يف اضعافهم وتكبدهم خسائر فادحة يف القوة البشرية. وأخرياً تناولنا ابلدراسة والتحليل عوامل اإلخفاق واهلزمية. الكلمات املفتاحية: قلج أرسالن، حروب صليبية، سالجقة الروم، الصليبيون، البيزنطيون.

The Stance of Sultan Kilij Arslan I towards the 1st. Crusade Expedition : A Study on the Relation of The Rum Sultanate and the First Expedition (487-500 H./1094-1107 A.D) 1097 ADE)

Prof. Fuaad Abd al-Raheem al-Duwaykat Dept. of Social Sciences - Faculty of Arts & HumanitiesTaibah Univ.- Al-Madinah Al-Munawarrah. K.S.A.

Abstract: This study focuses on the stance of the sultan Kilij Arslan I towards the 1st. crusade expedition, especially his cautious and worried reaction from the very beginning when he was acquainted with the news concerning the crusader orientation towards his country. Since his sources informed him with a very important and specific information about the crusaders’ moves. This research deals also with the Sultan’s efforts to protect the sultanate from the crusade threat. Thus the work disclosed the elements of his defense plan. He proposed to protect his capital from defeat by the crusaders. The study dealt with the analysis of the attacks; that done by Arslan against the Byzantine crusaders, which besieged . It sheds light on the fighting operations done by the crusaders against Nicaea. Moreover, the study highlighted the efforts of Arslan to conpansate his defeat in Nicaea and the confrontation of Byzantine crusaders in Dorolium. His defeat there oriented him to change his strategy from the military option to the policy of the burned land, to deprive the crusader’s troops from the recourses of the territories they pass by. That may weaken and cost them massive losses in their man power. Finally the study highlights the factors of defeat through the analytic approach. key words: Kilij Arslan, , Rum Seljuks, Crusaders, Byzantine.

املقدمة: لسلطنة سالجقة الروم )470 -708هـ/ 1077- 1308م( مكانة هامةيف التاريخ اإلسالمي، ابعتبارها أول دولة إسالمية تصدت جلموع احلملة الصليبية األوىل قبل أن تدخل بالد الشام 491هـ/ 1097م. واألمر املثري لالستغراب أن موقف قلج أرسالن من احلملة الصليبية األوىل يكاد يكون جم ه و الً ل د ى ا ل كث ري م ن ا ملت خ ص صني يف الدراسات الصليبية. وخباصة فيما يتصل بتفاصيل املواجهات العسكرية احلامسة اليت دار رحاها على جبهات آسيا الصغرى بني سالجقة الروم بقيادة السلطان قلج أرسالن وبني القوات الصليبية والبيزنطية، وتكمن أمهية هذه املواجهات ملا ترتب عليها من آاثر سلبية على السلطنة. فقد تكبد سالجقة الروم خسائر فادحة يف القو ة البشرية، وتدهورت ا ل سل طن ة ت ب عا ً ل ذل ك ب ع د أ ن ر س خت أقدامها يف آسيا الصغرى، وأفادت بيزنطة من ذلك فأخرجت سالجقة الروم من السواحل الشمال ية الغربية، والسواحل الغربية ، واجلنوب ال غر ب من األانضول، وانكفأ سالجقة الروم إىل وسط األانضول. إن موقف قلج أرسالن من احلملة الصليبية األوىل مل يظفر مبا يستحقه من عناية واهتمام املؤرخني العرب؛ ويعود السبب يف هذا إىل أن املصادر اإلسالمية املعاصرة قد ضنت ابملعلومات واحلقائق اليت جتلي هذا املوقف ، ولعل أخباره مل تصل إليهم أو أهنم مل يدركوا أمهيته فأغفلوه.

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 299 العدد الستون رجب 1442 هـ

ون ظ راً ل قل ة ا ل د را سا ت ا ل يت ت ن ا ول ت م وق ف ق ل ج أ ر س ال ن م ن ا حل مل ة ا ل صل ي ب ي ة األوىل فقد ارأتيت أن اختص هذا املوضوع بدراسة علمية تفصيلية من منظور متكامل للكشف عن تفاصيله ودقائقه، و عل ي أن أ ضي ف ج دي داً أ و أ و ض ح بعض جوانبه الغامضة. وتطلبت الدراسة العودة إىل املصادر التارخيية األولية لتغطية جوانب البحث،غري أن املصادر اإلسالمية ليست كافية لإلحاطة هبذا املوضوع، وواقع األمر أنه يتعذر كتابته دون االستعانة ابملصادر اليواننية والسراينية واألرمنية والالتينية اليت تناولت إبسهاب موقف قلج أرسالن من احلملة الصليبية األوىل، وميزة هذه املصادر أهنا عاصرت األحداث اليت أرخت هلا،

و كت ب ت روااي هتا بيد معاصرين أو مشاركني يف األحداث اليت كانوا يدونوهنا، وبذلك فإهنا أمدتنا مبادة ذات قيمة علمية معتربة غطت جوانب البحث. وأ خ رياً و ض ع ا ل ب ا حث خامتة للدراسة، تضمنت أهم النتائج اليت مت التوصل إليها. قلج أرسالن األول وإحياء سلطنة سالجقة الروم 487 هـ/1094 م: ظهر سالجقة الروم على مسرح األحداث السياسية داخل األانضول ألول مرة يف النصف الثاين من القرن اخلامس اهلجري احلادي عشر امليالدي، بعد االنتصار الكبري الذي حققه السالجقة على البيزنطيني يف معركة مالذ كرد

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 300 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

463هـ/ 1071م)1( ، حيث عرب هؤالء إىل األانضول مؤسسني دولة خاصة هبم عرفت بسلطنة سالجقة الروم على يد سليمان بن قتلمش ) -470 479هـ/ 1077- 1086م( )2( ، وحني نشب اخلالف سنة 479هـ/ 1086م بينه وبني اتج الدولة تتش بن ألب أرسالن )ت 488هـ/ 1095م( )3( حول حلب، وانتهى مبقتله تفسخت الوحدة السياسية للسلطنة وتقسمت بني كبار قادته، ذلك أن سليمان بن قتلمش وقبل خروجه على رأس محلته إىل ق ل ي قي ة وأ ن طا كي ة ع ني انئ ب ا ً عن ه يف نيقية أاب القاسم وجعل له السلطة العليا على

)1( ابن القالنسي، أبو يعلى محزة بن أسد التميمي )ت 555هـ(: اتريخ أب يعلى محزة ابن القالنسي املعروف بذيل اتريخ دمشق، حتقيق: آمدروز، القاهرة، مكتبة املتنيب، د.ت، ص 99؛ ابن األثري، أبو احلسن علي بن أب الكرم حممد الشيباين )ت630هـ(: الكامل يف التاريخ، مراجعة: حممد يوسف الدقاق، بريوت، دار الكتب العلمية، 1995، 388/8 – 389. ومالذكرد بلدة يف األانضول، تقع مشال حبرية وان. انظر: موسرتاس، س: املعجم اجلغرايف لإلمرباطورية العثمانية، ترمجة: عصام الشحادات، بريوت، دار ابن حزم،2002، ص468 . )2( السرايين، مار ميخائيل )ت 596هـ(: اتريخ مار ميخائيل السرايين الكبري، ترمجة: غريغوريوس مشعون، ط1، حلب، دار ماردين، 1996، 3/141؛ جمهول: اتريخ الرهاوي اجملهول، ترمجة: البري أبوان، ط1، بغداد، مطبعة شفيق، 1986م، 2/66؛ ابن العربي، أبو الفرج غريغوريوس بن أهرون امللطي )ت 685هـ(: اتريخ الزمان، ترمجة: إسحق أرملة، ط2، بريوت، دار املشرق، 1986، ص118؛ كومنينا، آان )ت 548هـ(: أل كسياد، ترمجة: حسن حبشي، ط1، القاهرة، اجمللس األعلى للثقافة، 2004، ص 36-51؛ انظر ترمجته يف: الذهيب: أعالم النبالء، 18/ .449 ) ( 3 انظر ترمجته يف: أعالم النبالء، 19/ -83 85 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 301 العدد الستون رجب 1442 هـ

أمراء دولته ) 1( ، وملا ذاع خرب مقتله يف األانضول استقل أمراء السلطنة كل مبا حتت يده ) 2( . بعد وفاة السلطان ملكشاه بن ألب أرسالن )ت 485هـ/1092م( )3( اندلعت املنازعات على العرش بني أمراء البيت السلجوقي، وملا توىل بركياروق احلكم )487- 498هـ/ 1094- 1104م( )4( أطلق سراح قلج أرسالن داود األبن األكرب لسليمان بن قتلمش، بسبب خالفه ونزاعه مع عمه تتش- الذي انزعه السلطة- ؛ ف قا د جي شا ً م ن ا ل ن ا وكي ة )5 ( يف هذه السنة 487هـ/

)1( كومنينا: أل كسياد، ص254؛ السرايين: اتريخ ميخائيل، 3/153؛ ابن العربي: اتريخ الزمان ، ص119.ومل نعثر هلذا النائب على ترمجة يف املصادر اليت اطلعنا عليها، وأشارت اليه املؤرخة البيزنطية كومنينا بكنيته دون أن تذكر امسه. )2( كومنينا: أل كسياد، ص256 . ) (3 هو جالل الدولة أبو الفتح ملكشاه اثلث سالطني السالجقة العظام. عنه انظر: ابن خلكان، مشس الدين امحد بن حممد) ت681ه(:وفيات األعيان وأنباء أبناء الزمان، حتقيق: احسان عباس، بريوت، دار صادر،1977، 289-283/5. )4( وهو خامس السالطني السالجقة العظام. عنه انظر: أعالم النبالء،196-195/19. )5( الناوكية: وهم مجاعات من الفرسان من قبائل الغز الرتكية املقاتلني ابلسهام على اخليول، انشروا يف األقاليم احلدودية للمشرق اإلسالمي مثل: أذربيجان وأرمينيا وداير بكر والثغور البيزنطية، ودان هؤالء ابلطاعة آلل قتلمش الزعماء التارخييون املعرتف هبم للغز الناوكية. انظر: عقلة، عصام مصطفى: الناوكية يف بالد الشام دراسة يف التسمية واألصل والعالقة ابلغز العراقية وابلدولة السلجوقية، حبث منشور يف اجمللة األردنية للتاريخ واآلاثر، سنة 2012، جملد: 6، العدد: 2، ص 39 40-، 45 46-.

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 302 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

1094م وذهب إىل األانضول، فأعاد السيطرة على معظم املناطق اليت كانت ختضع لوالده )1(، و اتب ع ز ح ف ه مشا الً و ص و الً إ ىل ن ي قي ة، فرحب به األتراك )2( ون صب و ه سل طا انً عليهم ، وب ذل ك أ عي د إ حي ا ء سل طن ة س ال ج ق ة ا ل ر و م وت ث ب ي ت ها اثنية. أراد قلج أرسالن أن جيتاز بدولته مرحلة الضعف والتفكك إىل عهد جديد، وتطلب حتقيق هذا اهلدف إجراء إصالحات واسعة، فأعاد تنظيم إدارته املركزية، وأحل أنصاره واملقربني إليه حمل األمراء والقادة القدامى، فعزل األمري بولداق وتسمية املؤرخة البيزنطية كومنينا )Comnena( - بوخلانيس- شقيق األمري أب القاسم الذي كان يدير شؤون نيقية قبل وصوله، )3( وعني مكانه أ خي ه حم م داً ا ل ذ ي أ صب ح كب ري ن وا ب ه ، ونظم إدارة الوالايت )4( واألقاليم وعني فيها الو الة ، ف ض الً ع ن عن ا ي ت ه اب جلي ش وت عي ني ق ا دت ه العسكريني للدفاع عن الدولة )5(، مث مضى يف إصالح النظم الضريبية لتوفري

)1( سبط بن اجلوزي، يوسف بن قز أوغلي الرتكي )ت 654هـ(: مرآة الزمان يف اتريخ األعيان حوادث )497 – 517هـ(، حتقيق: مسفر الغامدي، ط1، مكة املكرمة، جامعة أم القرى، 1987، 2/ -443 444 . )2( كومنينا: أل كسياد، ص266.ونيقية)إزنيق احلالية( مدينة يف األانضول على ضفاف حبرية نيقية. انظر: موسرتاس: املعجم اجلغرايف، ص 54. )3( كومنينا: أل كسياد، ص266 . )4( كومنينا: أل كسياد، ص266 . )5( كومنينا: أل كسياد، ص266 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 303 العدد الستون رجب 1442 هـ

املوارد املالية، لتمكينه من حتقيق غايته ابلنهوض وجتاوز مرحلة الضعف، فأعاد ضريبة اخلراج؛ ومشلت هذه الضريبة سكان السلطنة بصرف النظر عن الدين، ابعتبارها ضريبة يؤديها من يستثمر األرض اخلراجية )1(، كما وضع اجلزية على أهل الذمة، ومت جباية هذه الضرائب من العاصمة وسائر أقاليم السلطنة لتغطية نفقات الدولة )2(. أدرك قلج أرسالن أمهية بالده من الناحية التجارية ابعتبارها ملتقى لطرق التجارة الربية بني الشرق والغر ب )3(، ومنها مرت بضائع اهلند والصني إىل أ و ر و اب ، ك ما كا ن ت أ ي ضا ً مل ت ق ى ل ط ر ق ا ل ت جا ر ة ب ني ا ل ش ما ل وا جلن و ب ومنها عربت جتارة الرقيق من روسيا عرب البحر األسود إىل أورواب)4(، ف ف ر ض ر س و ما ً

)1( ويندوفر، روجر: ورود التاريخ، ترمجة: سهيل زكار، ط1، دمشق، املوسوعة الشاملة للحروب الصليبية، 2000، 39/ 33 . )2( الصوري، وليم: اتريخ احلروب الصليبية: األعمال املنجزة فيما وراء البحار، ترمجة: سهيل زكار، ط1، دمشق، دار الفكر للطباعة والنشر، 1990، 1/231؛ ويندوفر: ورود التاريخ، 39 .33/ ) ( 3 رمضان، حممد أمحد: حول وسائل الصراع املسلح اإلسالمي الصلييب يف العصور الوسطى، حبث منشور يف جملة املستقبل العرب، سنة 1987م، جملد: 10، العدد: 102، ص65؛ لالستزادة عن الطرق اليت كانت جتتاز آسيا الصغرى يراجع: = -Ramsay, W. M., The Historical Geography of Asia Minor, A. M. Hakkert, 1962, P.P. 74- 82. ) (4 بردج، أنتوين: اتريخ احلروب الصليبية، ترمجة: أمحد غسان سبانو، ط1، دمشق، دار قتيبة للنشر والتوزيع، 1985م، ص27.

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 304 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

كبرية على مرور التجارة عرب أراضيه. وليس أدل يف هذا اجملال من رواية املؤرخ الصلييب وليم الصوري )William of Tyre( واليت تفرد هبا عن غريه من املؤرخني، تقول: "أن وكالءه املعتمدون كانوا يتمركزون على مرأى من القسطنطينية نفسها حيث تولوا جباية الضرائب والرسوم من املارين" )1(. وهذا النص يظهر بوضوح انتعاش جتارة العبور ، وا ن ع كا س ها إ جيا اب ً على األوضاع االقتصادية للسلطنة يف هذه الفرتة املبكرة من اتريخ قيامها، حمققة ب ذل ك ن و عا ً م ن ا ل سي ا د ة ا ل سي ا سي ة ، ومضيفة موارد مالية كبرية خلزينة الدولة. ما لبث انتعاش ا ل سل طن ة وا ز د ها ر ها سي ا سي ا ً و ا ق ت صا د ايً أ ن م كن ت ه م ن إ جنا ز عمل معماري كبري حي ث أعاد جتديد عاصمته وتقوية استحكاماهتا )2 ( ، وأشادت املصادر الالتينية املعاصرة للحملة الصليبية األوىل حبصانة املدينة،-وهو ما سنفصل ه ال ح ق ا ً - وت ظ ه ر دراسة تلك النصوص العناية اليت أوالها السلطان للمدينة واهتمامه بتحصينها حصانة تفوقت هبا على سائر مدن آسيا الصغرى، ولعلي ال أجانب احلقيقة إذا ما قلت أبن املدينة ابتت على درجة من املنعة والقوة حبيث استحقت عن جدارة أن تسمى »قسطنطينية سالجقة الروم« )3 ( . على الصعيد اخلارجي، واجه السلطان مشاكل عديدة يف تعامله مع القوى السياسية احمليطة به، ويف مقدمتها اإلمرباطورية البيزنطية وحماوالهت ا

)1( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 231 . )2( توران، عثمان: األانضول يف عهد السالجقة واإلمارات الرتكمانية، ترمجة: علي حممد الغامدي، ط1، مكة املكرمة، جامعة أم القرى، 1997، ص11 . )3( أطلق الباحث هذا االسم على املدينة ابلنظر لقوة حتصينها ومناعة استحكاماهتا.

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 305 العدد الستون رجب 1442 هـ

الرامية الستعادة األقاليم اليت فتحها سالجقة الروم إىل حظرية اإلمرباطورية. لكن قلج أرسالن استطاع التصدي لبيزنطة، ومنعها من االستقرار وتوطيد نفوذها على الشواطئ الشرقية لبحر مرمرة )1(, ويندرج ضمن سياسة املواجهة انضمام قلج أرسالن لتحالف األمراء األتراك يف آسيا الصغرى بزعامة أمري أزمري جكا وتسميه املؤرخة كومنينا »تزاخاس« »Tzachas« )-474 488هـ/ 1081- 1095 م ( م دف و عا ً ب ر غب ت ه ابالستيالء على القسطنطينية وتويل عرش اإلمرباطورية )2(, لكن اإلمرباطور البيزنطي الكسيوس كومنني )Alexios Comnenus( )474- 512هـ/ 1081- 1118م( اختذ من التدابري ما ضمن فصم عرى التحالف، ويف هذا السياق أكدت املؤرخ ة أ نـ ـ ا ك و من ي ن ا أب ن وا ل د ها رأ ى أ ن إ متا م ه دفه يتطلب العمل على إاثرة )3( القالقل بني تزاخاس والسلطان ، ف أ ر س ل كت ا ابً إ ىل ا ل سل طا ن خ وف ه ف ي ه م ن )4( طموح جكا وأ ن ه ي ش ك ل خ ط را ً على سلطنته ، وجنح الكسيوس مبا اشتهر به من مكر وخداع يف حتقيق هدفه، وقتل األمري جكا أثناء حضوره لوليمة أعدها له قلج أرسالن )5(، ومل حتدد املؤرخة كومنينا اتريخ هذه احلادثة، ويفهم

)1( توران: األانضول يف عهد السالجقة، ص11 . )2( كومنينا: أل كسياد، ص345؛ رنسيمان، ستيڤن: اتريخ احلروب الصليبية، ترمجة: السيد الباز العريين، بريوت، دار الثقافة، 1997، 119/1 . )3( كومنينا: أل كسياد، ص351 . )4( كومنينا: أل كسياد، ص351 352-. )5( كومنينا: أل كسياد، ص-352 353.

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 306 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

من سياق األحداث أن ذلك كان سنة 488هـ/ 1095م، إذ أعقبها حبسب رواية كومنينا توقيع معاهدة بني اإلمرباطور والسلطان )1(، مكنته من التحرك ش رق ا ً حملا ص ر ة م دي ن ة مل طي ة يف هذه السنة )2(، وكان اهتمام قلج أرسالن من صب ا ً عل ى ت و طي د ن ف و ذ ه يف ش ر ق آ سي ا ا ل ص غ ر ى و إخضاع بقية اإلمارات ا ل رتكي ة ل ن ف و ذ ه ، ل كن ه ما ل ب ث أ ن ق ف ل عا ئ داً إ ىل عا ص مت ه حل ما ي ة ب ال د ه م ن اخلطر الصلييب الذي أطل برأسه من الغرب. سلطنة سالجقة الروم واحلملة الصليبية األوىل: - زحف احلشود الصليبية واستعدادات املواجهة من جانب السلطان: ترامت ملسامع السلطان قلج أرسالن أنباء زحف اجلموع الصليبية الضخمة وتصميمهم على اجتياح بالده، وقد اختلف املؤرخون يف حتديد أتريخ حمدد للوقت الذي علم به السلطان أنباء التحرك. فاملؤرخ ميخائيل السرايين جيعلها يف سنة 484هـ/ 1091 م )3( ، ل ك ن مي خا ئ ي ل مل ي ك ن دق ي قا ً يف هذا التحديد، ألن السلطان قلج أرسالن كان يف هذه السنة ما يزال يف أسر السلطان ملكشاه الذي تويف ليلة اجلمعة، شوال 485هـ/ نوفمرب

)1( كومنينا: أل كسياد، ص353 . ) (2 ابن العربي: اتريخ الزمان، ص122. وملطية: مدينة تقع ابلقرب من معرب الفرات إىل جبال طورس. انظر: لسرتانج: بلدان اخلالفة الشرقية،ترمجة: بشري فرانسيس، كوركيس عواد، بريوت، مؤسسة الرسالة، 1985، ص152 . ) ( 3 السرايين: اتريخ ميخائيل، 3/ 160.

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 307 العدد الستون رجب 1442 هـ

)1( 1092 م ، أما املؤرخ ابن القالنسي ال ذ ي كا ن م عا ص راً للحدث فيجعلها يف سنة 490هـ/ 1096م )2(، إال أن املرجح أن تكون األنباء بلغته سنة 488هـ/1095م وهو حياصر ملطية، فأاثرت الشعور ابلقلق واحلذر، فأصدر أوامره إىل قواته ابالنسحاب من ملطية والعودة إىل بالده، وحسب تعبري املؤرخ ابن العربي »وذلك حينما بلغه قدوم الفرجنة هذه السنة« )3(. لكن السؤال الذي يواجه الباحث هنا: من هي اجلهة اليت أعلمت قلج أ ر س ال ن أب ن جي و شا ً م ن ا ل صل ي ب ي ني ت ش ق ط ري ق ها إ ل ي ه ؟ إنناإذا أمعنا النظر يف املصادر العربية، فسوف نلحظ أن اإلمرباطور البيزنطي هو الذي أخربه بذلك من خالل الرسالة اليت انفرد املؤرخ العظيمي ابإلشارة إليها سنة 489هـ/ 1095م وجاء فيها: "كتب ملك الروم ألكسس إىل املسلمني يعلمهم بظهور الفرنج" )4(، من غري أن ينص صراحة على اجلهة اليت كتب إليها اإلمرباطور، لكننا- ومن سياق األحداث- نستطيع أن جنزم أبن قلج أرسالن هو اجلهة اليت كتب إليها حم ذ راً . وأ ح س ب أ ن اإلمرباطور

) ( 1 ابن األثري: الكامل يف التاريخ، 8/ 481 -484 ؛ خواندمري، حممد بن خاوندشاه )ت 903هـ(: روضة الصفا يف سرية األنبياء وامللوك واخللفاء، ترمجة: أمحد عبدالقادر الشاذيل، ط1، القاهرة، الدار املصرية للكتاب، 1988، ص 244 . ) (2 ابن القالنسي، ذيل اتريخ دمشق ، ص134 . ) (3 ابن العربي: اتريخ الزمان، ص122. )4( العظيمي، حممد بن علي احلليب )ت 556هـ(: اتريخ حلب، حتقيق: إبراهيم زعرور، دمشق، د.ت، 1984، ص358 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 308 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

كا ن جا داً حني أرسل لسالجقة الروم يعلمهم أبنباء الزحف الصلييب، فقد كان على دراية اتمة مبا جيري يف الغرب األوروب من إعداد للحملة الصليبية )1( وموعد رحيلها، وختوف من نوااي الصليبيني وأهدافهم احلقيقية ، م عت ق داً أ ن غرضهم خلعه عن ش العرواالستيالء على اإلمرباطورية، وهو ما نصت عليه ابنته صراحة يف اترخيها )2(، ويبدو أن غايته من مكاتبتهم حىت يكونوا على بينة من األمر، فقد تلجئه الضرورة امللحة لالستعانة هبم على قتاهلم إذا قضت الضرورة هبا )3(، وأشارت املصادر الالتينية ل ذل ك ت ل مي حا ً ال ت ص ر حيا ً م ن خالل أتكيدها حصول قلج أرسالن على معلومات دقيقة عن زحف احلشود الصليبية صوب بالده، يقول وليم الصوري هبذا الصدد أن قلج أرسالن استبد به القلق عندما مسع أن قواتنا كانت قادمة )4(، من غري أن يوضح املصدر الذي مسع منه، ويشري املؤرخ أوردريك ڤيتالس )Orderic Vitalis( أن قلج أرسالن مسع ذلك من مصادر موثوقة )5(، من غري أن يزيح الستار عنها، وهو أمر جدير ابملالحظة.

)1( كومنينا: أل كسياد، ص387 . )2( كومنينا: أل كسياد، ص390 ، 392. )3( كومنينا: أل كسياد، ص387 . )4( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 187 . ) (5 ڤيتايل، أوردريك: التاريخ الكنسي، ترمجة: سهيل زكار، ط1، دمشق، دار التكوين للطباعة والنسر، 2008، ص31 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 309 العدد الستون رجب 1442 هـ

مل يركن قلج أرسالن إىل جهة بعينها لتقصي أخبار زحف احلشود ا ل صل ي ب ي ة ، وإ منا ب ذ ل ق صا ر ى ج ه د ه يف ه ذا ا جلا ن ب . م عت م داً عل ى ج ها ز استخباراته الذي أداره بكفاءة كبرية حبيث وفر له معلومات دقيقة عن حتركات احلشود الصليبية، ويف معرض حديثه عن االستخبارات السلجوقية أشاد املؤرخ البيزنطي كيناموس )Kinnamos( مبا كانوا عليه من قدرات استطالعية ابرزة )1(، وميكن القول أن قلج أرسالن جنح بفضل كفاءة استخباراته ابجتذاب قبائل البشناق والكومان الرتكية يف البلقان والدانوب األدىن جلانبه ملوافاته بتحركات احلشود الصليبية )2(، وال غرابة يف ذلك، فاملؤرخ رنسيمان )Ranciman ( حيدثنا يف هذا الصدد كيف أن قبائل الكومان بزعامة يوسف اترخانيوتس )Tarchaniotes( العاملة يف اجليش البيزنطي احنازت يف الليلة السابقة على معركة مالذكرد إىل جانب إخواهنم السالجقة لكوهنم أتراك )3(، كذلك سردت لنا كومنينا يف اترخيها حتالف قبائل البشناق يف البلقان )483- 484ه/1090-1091م( مع أمري أزمري جكا ضد بيزنطة، ووضعت خطة مشرتكة هلجوم األتراك والبشناق على القسطنطينية،

Kinnamos, J:Deeds of Johan and Manuel Comnenus, Tr: )1( Brand. M, New york 1976, P.47. )2( لالستزادة عن هذه القبائل يراجع: ابرتولد: اتريخ الرتك يف آسيا الوسطى، ترمجة: أمحد السعيد سليمان، القاهرة، اهليئة املصرية العامة للكتاب، 1996، ص 120 121-. )3( رنسيمان: اتريخ احلروب الصليبية ، 97/1 – 98 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 310 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

لكن بيزنطة شقت طوق ذلك الت حالف )1(، ويبدو أن سالجقة الروم أفادوا من الظروف السياسية السائدة يف البلقان آنذاك، لكون الس واد األعظم من قوات القادة والوالة وحكام املدن البيزنطية كانوا من البشناق املأجورين )2(. عرف قلج أرسالن من األخبار اليت بلغته عن ضخامة احلشود الصليبية مبلغ اخلطر احملدق به، وإذ أيقن أن ليس ابستطاعته الوقوف وحده أمام تلك القوات، فقد ارأتى أن يبادر بطلب النجدات من أمراء املشرق اإلسالمي للدفاع عن ممتلكاته، يتضح ذلك من رواية ابن القالنسي املعاصر للحدث، يقول: "شرع يف اجلمع واالحتشاد وإقامة مفروض اجلهاد واستدعى من أمكنه من الرتكمان لإلسعاد عليهم واإلجناد فوافاه منهم مع عسكر أخيه العدد الكبري وقويت بذلك نفسه واشتدت شوكته" )3(، وتتشابه رواية املؤرخ الصلييب وليم الصوري يف هذا اجلانب مع رواية ابن القالنسي، فيذكر: "أبن قلج أرسالن رحل إىل الشرق قبل وقت طويل سبق قدوم هذه القوات اللتماس العون من حكام تلك البالد ضد حشود املسيحيني املتقدمة، وكان قد ا ست د ر ج إ ىل جا ن ب ه ع د داً كب رياً م ن ا ألت را ك م ن ب ال د ف ا ر س و م ن ا أل را ض ي املتامخة هلا" )4(، لكن هناك تفاصيل مهمة يف رواية املؤرخ وليم الصوري مل

)1( كومنينا: أل كسياد، ص294 -308، ص-320 328 . )2( رنسيمان: اتريخ احلروب الصليبية، 1/184 -185؛ زابوروف، ميخائيل: الصليبيون يف الشرق، ترمجة: الياس شاهني، ط1، موسكو، دار التقدم، 1986، ص69. ) (3 ابن القالنسي: ذيل اتريخ دمشق ، ص134 . )4( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 187 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 311 العدد الستون رجب 1442 هـ

يتطرق إليها ابن القالنسي وتشري للمزيد من مصادر املعلومات، وقد وقفنا من دراستنا هلذه الرواية على السياسة اليت انتهجها الجتذاب مزيد من ا ل ق وا ت ا إل س ال مي ة إ ىل جا ن ب ه ، حي ث ي ذ ك ر : "أ ن ه ا ست د ر ج إ ىل جا ن ب ه ع د داً كب رياً من األتراك... وذلك بوس اطة األقوال املقنعة والتوسالت امللحة العديدة، و طب عا ً ل ي س ب د و ن ا ل ت خل ي ع ن ا ملا ل أ ي ضا ً ، وقد أمل مبساعدة من هؤالء الناس )1( أ ن ي ك و ن ق ا د راً عل ى محا ي ة ن ي قي ة واملنطقة أبسرها من اخلطر الذي هتددها" . وتتطابق رواية أ لربت فون آخن )Albert Von Achene( املنبئة عن احلدث نفسه واليت استمدها من شا ه د عي ا ن د و ن م ال ح ظا ت ه أ و الً أب و ل . م ع ما أورده ابن القالنسي ووليم الصوري، ومؤداها، أن قلج أرسالن عندما مس ع بوصول الصليبيني اندىعلى األتراك يف آسيا الصغرى اليواننية، ومملكة فارس، وانفرد بتحديده لعدد القوات اليت مجعها - فتجمع لديه مخسة عشر ألف مقاتل- منالرجال اخلرباء يف احلرب مزودين ابلسيوف والسهام )2(، إن هذه النصوص تؤكد إدراك السلطان لعظم اخلطر الصلييب احملدق به، مث. وهو األهم. حسن إعداده للمعركة القادمة.

)1( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 187، 230 . ) (2 آخن، ألربت فون: اتريخ احلملة الصليبية األوىل ، ترمجة: سهيل زكار، ط1، دمشق: املوسوعة الشاملة يف اتريخ احلروب الصليبية، 2007، 51/ 24-23 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 312 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

عبور قوات احلملة الصليبية األوىل آسيا الصغرى: - محلة العامة: عربت مجوع الغوغاء - محلة العامة- )1( مضيق رالبسفو يف السادس من أغسطس )آب( 1096م/490ه، ونزلت يف قاعدة عسكرية بيزنطية قدمية على الساحل اجلنوب خلليج نيقوميداي وتسميها املصادر البيزنطية كيبوتس )Kibotes( )2(، بينما تذكرها املصادر الالتينية ب ــــــ »سيفتوت«)Civitot ( )3(، يف ضواحي بلدة هيلينوبوليس )Helenopolis( قرب البسفور )4(، وتبعد حنو 35كم مشال غرب مدينة نيقية )5(، وقد وقع االختيار على هذا املوقع لتعسكر فيه احلشود الصليبية )6( ألمهيته االسرتاتيجية ولسهولة تزويده ابملؤن حب راً م ن ا ل ق س طن طي ن ي ة .

) (1 مجوع شعبية ضخمة قادها بطرس الناسك ووالرت املفلس وغريهم، وجاءت مشاركة هؤالء يف احلملة الصليبية األوىل بفعل الظروف القاسية اليت كان يعيشها هؤالء يف غرب أورواب يف تلك الفرتة. انظر: عاشور: احلركة الصليبية، 111-108/1 . )2( كومنينا: أل كسياد، ص415 . )3( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/186؛ ويندوفر: ورود التاريخ، 20/39. )4( كومنينا: أل كسياد، ص390 . )5( زابوروف: الصليبيون يف الشرق، ص58 . ) (6 جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ترمجة: حسن حبشي، ط1، القاهرة، دار الفكر العرب، 1958، ص33؛ الشارتري، فوشيه: اتريخ احلملة إىل القدس ) 1095-1127م(، ترمجة: زايد العسلي، ط1، عمان: دار الشروق، 1990، ص46 -47؛ ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، ص22 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 313 العدد الستون رجب 1442 هـ

تصادف عبور هذه احلشود مع ارحتال قلج أرسالن إىل املشرق لطلب النجدات اإلسالمية، األمر الذي أ سي ئ تفسريه من جانب العديد من املؤرخني احملدثني واحنصر ذلك يف : رأينياألول: ويشري فيه أحد الباحثني أبن قلج أرسالن حني عربت محلة بطرس الناسك إىل آسيا الصغرى كان حيارب )2( )1( ضد إمارة الدانشمند م سن داً رأ ي ه ل ل م ؤ ر خ ا ب ن ا ألث ري . وابلعودة إىل ابن ا ألث ري مل جن د ذ ك راً هل ذا ا خل رب . أما الرأي الثاين وهو األنكى، فيزعم بعض املؤرخني األوروبيني املعاصرين، واتبعهم على ذلك عدد من الباحثني العرب )3(، أن قلج أرسالن حني عربت مج و ع ا حل مل ة ا ل صل ي ب ي ة ا ل ن ظا مي ة إ ىل آ سي ا ا ل ص غ ر ى كا ن غا ئ ب ا ً ع ن عا ص مت ه حيث ذهب إىل احلدود الشرقية لينازع أمراء الدانشمند السيادة على مدينة

)1( إمارة الدانشمند: إمارة تركية أتسست يف الركن الشمايل الشرقي من آسيا الصغرى على يد األمري مشس الدين كمشتكني امحد بن علي سنة 477ه/1084م. انظر: احمليميد، علي بن صاحل: الدانشمنديون وجهادهم يف بالد األانضول، اإلسكندرية، 1994،ص37 . )2( مرسي الشيخ، حممد: محلة بطرس الناسك الصليبية يف ضوء كتاابت أ ان كومنينا، حبث منشور يف جملة كلية العلوم االجتماعية ، جامعة اإلمام حممد بن سعود، سنة 1978، العدد:2، ص .316 )3( رنسيمان: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 250- 251؛ زابوروف: الصليبيون يف الشرق، ص74؛ ماير، هانز: اتريخ احلروب الصليبية، ترمجة: عماد غامن، ط1، طرابلس الغرب، جممع الفاتح للجامعات، 1990، ص80؛ عاشور، سعيد عبدالفتاح: احلركة الصليبية، ط6، القاهرة، مكتبة األجنلو املصرية، 1996، ص 127 – 128؛ طقوش، حممد: اتريخ سالجقة الروم يف آسيا الصغرى، ط1، بريوت، دار النفائس،2002، ص82-81 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 314 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

ملطية يف أ رمينية الغربية، مستندين حبسب زعمه م لرواية املؤرخ األرمين مىت الرهاوي )1(، أما ابلنسبة للواقع التارخيي فإننا مل نقف على ما يؤيد هذا الزعم، وابلعودة إىل مىت الرهاوي تبني لنا أنه مل يتحدث عن ذهاب قلج أرسالن إىل احلدود الشرقية ملنازعة أمراء الدانشمند السيادة على ملطية، وإمنا وردت روايته يف كتابه هبذا الشكل: "قام الفرس -سالجقة الروم- حينئذ ابلتجمع، وهامجوا معسكر الصليبيني، ولكن النصر كان حليف الصليبيني، .... وسيطروا على نيقية بقوة السالح... أن هزمية الفرس هذه جعلتهم يتوجهون بطلب النجدة من السلطان قلج أرسالن الذي كان يقيم يف مقر حكمه يف ملطية، وأخربوه هبزميتهم، فحشد هذا األمري قوات ال تعد وال حتصى، وخرج هبا ملواجهة اإلفرنج يف مقاطعة نيقية" )2(، وعليه فإنه من غري املمكن االستناد إىل هذا النص للتسليم هبذه املزاعم. األمر الذي يطرح على بساط البحث إشكالية خروج املؤرخ على مستلزمات البحث العلمي، وعبثه الصريح ابلنصوص التارخيية، حسب أفكاره اخلاصة ومعتقداته وأغراضه السياسية دون أن يعبأ ابألمانة العلمية واملوضوعية، وأال فإين ما أشار إليه رنسيمان يف هوامشه عن وصف مىت الرهاوي هلجوم قلج أرسالن على ملطية، وأنه كان منصرفاً إىل أمورها، حينما هاجم الفرنج نيقية.

) (1 الرهاوي، مىت)ت 539 هـ(: اتريخ مىت الرهاوي، ترمجة: حممود الرويضي، عبدالرحيم مصطفى، ط1، أربد، مؤسسة محادة للدراسات اجلامعية، 2009، ص 69 70- . )2( الرهاوي: اتريخ مىت الرهاوي، ص -68 70 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 315 العدد الستون رجب 1442 هـ

من انحية أخرى، حيضران وحنن نعرض لتفنيد هذه املزاعم ما أوردته املصادر الالتينية يف هذا الصدد. فقد ذكر املؤرخ وليم الصوري، أبن جيوش احلملة النظامية حني عربت البسفور كان قلج أرسالن يقف مرتيثاً يف اجلبال اجملاورة اليت مل تكن تبعد أكثر من عشرة أميال عن جيشنا، ومعه احلشد الذي كان قد مجعه بكثري من اجلهد، وينتظر فرصة موائمة ملهامجة قواتنا دون إحلاق خطر به، وأمل هبذه الوسيلة أن ينقذ املدينة من اخلطر الناجم من هذا )1( املصدر ، ويف موضع آخر من كتابه ون ق الً ع ن السلطان يف رسالته ألهل نيقية، نقرأ هذ ه العبارة: "أين مرابط مع قوة كبرية من الرجال يف املنطقة اجملاورة" )2(. مكثت مجوع محلة العامة قرابة شهرين يف معسكر »كيبوتس« )3(، ومتتعوا ابل را ح ة ب ع د ح ص و هل م عل ى ا مل ؤ ن ا ل ال ز م ة م ن ا إل م ربا ط و ر ، و وف قا ً ل ل م صا د ر )4( الالتينية فقد كان يف املعسكر وفرة من كل شيء خاصة املؤن ، وف ض الً ع ن ذلك وصلت ب ن ا ءً عل ى أ وا م ر ا إل م ربا ط و ر س ف ن حمملة ابملؤن بيعت هلم أبسعار

)1( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 231 . )2( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 232 . ) (3 ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 22؛ الصوري: اتريخ احلروب ال صليبية، 1/186؛ ويندوفر: ورود التاريخ، 21/39. )4( ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 22؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/186؛ ويندوفر: ورود التاريخ، 21/39.

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 316 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

رخيصة )1(، لكن هؤالء الغوغاء الذين مردوا على السطو والنهب، كاألنعام السائب ة ال ي ع قل و ن شي ئ ا ً ف إ ذا ال ح مغنم طاروا وراءه، والباعث على ذلك من وجهة نظر املؤرخ وليم الصوري الوفرة يف املؤن والفراغ )2(، زحفت هذه اجلموع إىل ض وا ح ي م دي ن ة ن ي قي ة ي عي ث و ن ف سا دا ً ، وسلكوا مع أهلها م سل كا ً م ز ر ايً ، ف ق د ق ط ع وا ب ع ض ا أل ط فا ل ا ل ر ض ع إ ر ابً وأ جل س وا آ خ ري ن على اخلوازيق اخلشبية وألقوا هبم يف النار، أما الشيوخ والعجزة فأنزلوا هبم شىت صنوف العذاب، وملا علم سكان نيقية هبذه اجلرائم خرجوا من مدينتهم ونشبت معركة حامية الوطيس حارب فيها الطرفان بضراوة لكن السكان ارتدوا إىل داخل مدينتهم، فعاد هؤالء أدراجهم إىل معسكرهم حاملني معهم الغنائم اليت هنبوها )3(. حاول بطرس الناسك الذي حيكت األساطري حول فصاحته وإاثرته للمشاعر، وأتثريه الفائق على مستمعيه، أحكام سيطرته على هذه اجلموع املنفلتة، لكنه أخفق يف مهمة ا ل قي ا د ة ا ل يت مل ي ك ن ي صل ح هلا م طل قا ً ، ف عا د أدرجاه إىل القسطنطينية )4( .

) (1 ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 22 . )2( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية ، 1/ 186 . )3( كومنينا: أل كسياد، ص391. لالستزادة يراجع: ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 22- 23؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/186؛ ويندوفر: ورود التاريخ، 20/39 .21- ) (4 جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص 21؛ توديبود، بطرس: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ترمجة: حسني عطية، ط1، اإلسكندرية، دار املعرفة اجلامعية، 1998، ص64 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 317 العدد الستون رجب 1442 هـ

انتهزت فرقة فرنسية قوامها سبعة آالف راجل، وانضاف إليهم ثالمثائة فارس مغادرة بطرس الناسك للمعسكر، وهامجت ضواحي نيقية غري مبالني ابعرتاضات اآلخرين، فأصابوا غنيمة من املواشي وعادوا هبا إىل معسكرهم )1(، فسال لعاب مجاعة من األملان، وقرروا هنب ضواحي نيقية أسوة مبا فعله الفرنسيني، فزحف ثالثة آالف راجل ومخسمائة فارس بقيادة شخص يدعى رينالد. وجاء رد فعل السلطا ن عل ى ه ذ ه ا جل را ئ م عن ي فا ً ، إ ذ ا ستدرجهم إىل الكمني الذي نصبه هلم، وحا صر هم يف قلعة أك سريجوردن )Xerigordon( قرب نيقية )2(، وحبسب رواية وليم الصوري فإن القوات )3( ا ل سل ج وق ي ة أ ع مل ت ف ي ه م ق ت الً حبي ث مل ي ب ق من ه م أ ح د عل ى ق ي د ا حلي ا ة . ما لبثت أنباء تلك املذحبة أن وصلت إىل املعسكر الصلييب يف سيفتوت، فتنادوا للثأر لرفاقهم األملان، وتقدمت القوات الصليبية حنو نيقية، وكان قلج أرسالن ي ق ظا ً س ري ع ا حل رك ة مت وق عا ً ذل ك ، ما كا د ي صل ه ن ب أ حت رك ه م ح ىت جلأ إ ىل خ ط ة حمكمة لإليقاع هبم، وختري م ن ا مل وا ق ع ما رآ ه م الئ ما ً ل ن ص ب ا ل ك ما ئ ن ، م ن غ ري

) (1 جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص19؛ ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51 /22 – 23؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 185؛ ويندوفر: ورود التاريخ، . 21/ 39 )2( كومنينا: أل كسياد، ص391؛ جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص20؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص61 63- . )3( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 187 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 318 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

)1( أن يعلموا هبا آ م الً م ن ذل ك ا ل ق ضا ء عل ي ه م . وأذاع يف املعسكر الصلييب إشاعة مفادها أن القوة الصليبية سيطرت على نيقية، وأهنم بصدد اقتسام الغنائم، فاضطرب املعسكر وطالب اجليش ابلزحف حىت ال يفوهتم نصيبهم من الغنيمة، وحتركوا على حنو فوضوي فجر احلادي والعشرين من أكتوبر )تشرين أول( 1096م/490ه، من غري أن يتخذوا الرتتيبات اليت ينبغي اختاذها من جانب خارجني مثلهم للحرب، وعند قرية دراكون وقع اجليش الصلييب يف الكمائن اليت نصبها سالجقة الروم، وتعرضوا ملذحبة كبرية )2(، وقد محل ت ا مل ؤ ر خ ة ا ل ب ي زن طي ة أ نـ ا ك و من ي ن ا ب ط ر س ا ل ن ا س ك م س ؤولية ما حل ابجليش الصلييب من إابدة لعدم مساعه نصائح اإلمرباطور، من جانبه سعى بطرس للتنصل من املسؤولية وألقى ابلتبعية على رجاله ووصفهم أبهنم لصوص وقطاع طرق وال يستحقون اخلروج من أجل املسيح أو التعبد يف كنيسته املقدسة )3(. فيما احنى وليم الصوري ابلالئمة على اجلنود الصليبيني غري املنضبطني الذي أدى هبم الطيش إىل هذه اإلابدة الشاملة )4(، وبذلك جنح سالجقة

)1( كومنينا: أل كسياد، ص391 . )2( كومنينا: أل كسياد ، ص391 -392؛ أجيل، رميوند: اتريخ الفرجنة غزاة بيت املقدس، ترمجة: حسني عطية، ط1، اإلسكندرية، دار املعرفة اجلامعية، 1989، ص78 – 79؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص63 64-. )3( كومنينا: أل كسياد، ص392 . )4( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 186 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 319 العدد الستون رجب 1442 هـ

الروم يف إابدة احلملة العامة وتشتيت مشلها ومحاية بالدهم من عبثهم وفسادهم. - احلملة النظامية: كانت احلر ب ا ل صل ي ب ي ة م ش ر و عا ً ابب و ايً ل ت ح قي ق أ ه دا ف خا ص ة ابل كن ي س ة الالتينية، وأرادت بيزنطة أن تفيد من هذا املشروع ضمن ضوابط حمددة تراعي ظروفها ومصاحلها ابلدرجة األوىل، وإذا كان اهلدف النهائي للحرب الصليبية من وجهة نظر البابوية إنقاذ القرب املقدس من أيدي الكفار )املسلمني( ووضع األراضي املقدسة حتت سيطرة املسيحيني الكاثوليك )1 (، فإن اإلمرباطورية البيزنطية مل تشارك الصليبيني هذا اهلدف، وإمنا كان استعادة البالد اليت استوىل عليها سالجقة الروم إىل حظرية اإلمرباطورية هو اهلدف الرئيس الذي انضلت يف سبيل حتقيقه بكل الوسائل )2(، وملا كان اجلانبان يدركان اختالف أهدافهم وتضارب مصاحلهم، فقد استلزم ذلك التقريب بينهما يف املواقف ح ىت حي ق ق ك الً من ه م غا ي ت ه . وملا كانت القوات الصليبية ال تستطيع عبور آسيا الصغرى إىل بالد الشام دون أن متد هلا بيزنطة يد العون واملساعدة، وهو ما عرب عنه املؤرخ فوشيه الشارتري )Fulcher of Chartes ( بقوله: "كان من احملتم علينا إقامة عالقات ودية مع اإلمرباطور إذ مل يكن ابستطاعتنا دون مساعدته ومشورته

) (1 لالستزادة يراجع: الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 242 – 244. )2( كومنينا: أل كسياد، ص402 – 404، 410 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 320 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

أن نقوم هبذه الرحلة" )1(، فإهنا مل جتد غضاضة مبساعدة اإلمرباطور لتحقيق هدفه، وبعد مناورات شاقة توصل اجلانبان التفاق مبقتضاه أقسم أمراء احلملة الصليبية ميني الوالء إبعادة مجيع األقاليم اليت كانت اتبعة من قبل لإلمرباطورية ويتم ختليصها من السالجقة إىل حظرية اإلمرباطورية البيزنطية، مقابل تعهد اطور اإلمربالكسيوس إبمداد الصليبيني ابملؤن والعتاد واملرشدين الذين يقودوهم عرب مسالك ودروب آسيا الصغرى إىل الشام )2 (. يف ضوء املعطيات السابقة، ميكن القول أن االتفاقية الصليبية - البيزنطية استهدفت حتطيم السيادة السياسية لسلطنة سالجقة الروم يف األانضول ليحقق كل منهم غايته. ومل يغب عن قلج أرسالن حقيقة نواايهم ومطامعهم يف االستيالء على بالده، وقد أطلعنا املؤرخ ڤيتالس على رواية ال جندها يف املصادر األخرى، كش فت صراحة عن دافع بومهيند )Bohemond( من املشاركة يف احلروب الصليبية، تقول: بعدما هزم قلج أرسالن الفرجنة - محلة العامة- مسع يف اليوم التايل- 22 أكتوبر 1096 م/490ه- وعلم من مصادر موثوقة أبن الدوق قد دخل إىل أراضي اإلمرباطورية يف مقدونيا، وأن معه قوة مسلحة ضخمة من النورمانديني واألبولي ،ني وأنه عازم على االنتقام من األتراك، لسفكهم دماء الصليبيني )3(. فهذا النص يكشف حقيقة دوافع ه

)1( الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص45 . )2( كومنينا: أل كسياد، ص402؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية ، 1/ 242. ) (3 ڤيتايل: التاريخ الكنسي، ص31.انظر ترمجة بومهيند عند الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، . 212-211/1

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 321 العدد الستون رجب 1442 هـ

الشخصية ويفسر رغبته يف االنتقام من سالجقة ، الرومملشاركة قواهتم إىل جانب بيزنطة يف حرهبا ضد النورمان )474- 476هـ/ -1081 1083م(، وكان قلج أرسالن آنذاك ول ي ا ً ل ع ه د وا ل د ه ا ل سل طا ن سل ي ما ن )1(، وأ ر س ل ا إل م ربا ط و ر إ ىل ا ل سل طا ن سل ي ما ن مل ت م سا ً م سا ع دت ه ب ق و ة ع س ك ري ة ملقاومة النورمان، فأمده بقوة بلغ تعدادها سبعة آالف مقاتل، متكن بفضلهم من حتقيق االنتصار، وجترع بومهيند مرارة اهلزمية أوائل ديسمرب )كانون أول( 1083 م/476هـ )2(، فتاقت نفسه لالنتقام، ووجد يف احلرب الصليبية فرصته املواتية لالنتقام من سالجقة الروم. وال ريب أن رواية املؤرخ ڤيتالس كشفت بوضوح عن حقيقة موقف السلطان من اجليوش الصليبية، وختوفه منهم وشكه يف نواايهم، وتثبت يف الوقت نفسه اعتباره للحرب ضدهم أبهنا قضية حياة أو موت، دلل على ذلك رواية وليم الصوري اليت تقول: "أن األتراك كانوا عل ى ق ن ا ع ة أ ن ه ذا ا ل ص را ع كا ن ص را عا ً ح ىت ا مل و ت " )3(، ورواية ويندوفر اليت تؤكد: "أن االتراك الذين عرفوا أهنم يقاتلون يف سبيل حياهتم قاوموا بعنف")4(.

) (1 ابن العربي: اتريخ الزمان، ص 118. )2( كومنينا: أل كسياد، ص242 – 251؛لالستزادة ينظر: الدويكات، فؤاد عبد الرحيم: العالقات العسكرية بني سلطنة سالجقة الروم واإلمرباطورية البيزنطية ، حبث منشور يف اجمللة العربية للعلوم االنسانية، سنة 2020، جملد:38 العدد:150، ص54-53 . )3( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 188 . )4( ويندوفر: ورود التاريخ، 39/ 21.

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 322 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

انسحب قلج أرسالن من سيفتوت وهو يف غاية احلذر، وبسرعة تراجع )1( مع جيشه حلماية أراضيه ، وأ خ ذ ي ع د ا ل ع د ة وي عب ئ ق وا ه ل ل قا ء ا ملن ت ظ ر ، ف خ ز ن من الطعام يف نيقية ما يكفيه أثناء احلصار ألطول مدة كما قوى محاية األبواب من الداخل )2(،وعندما أيقن حبرج موقفه، وأن ليس مبقدوره الصمود ط وي الً أ ما م ت ل ك ا لقوات استنفر كل قادر على محل السالح ، ف وا ف ا ه ح ش د )3( كب ري من املتطوعة ، وحبسب رواية املؤرخ أ لربت فون آخن تسلم قلج أرسالن معلومات مؤكدة عن ضخامة اجليوش الصليبية )4(، ومواجهة جيش ت ل ك ع دت ه و ع د د ه جما زف ة خم وف ة ، وت قت ض ي ا حل ك م ة ا ل ع س ك ري ة ر س م خ ط ة حم ك م ة يدفع هبا عن دولته، ويفهم من سي ا ق ا أل ح دا ث أ ن ا جت ما عا ً ع ق د ض م كب ا ر القادة والضباط ورجال الدولة العتماد أسلوب اجملاهبة. وجعل هدفه أن يرد احملاصرين إ ن ا ست طا ع ب عي داً ع ن ا مل دي ن ة ، أ و أ ن ي دا ف ع عن ها ب ق وا ت ه ب فا عل ي ة أكثر )5(. وبىن خطته الدفاعية على التحصن يف اجلبال احمليطة ابملدينة هبدف اعرتاض زحف احلشود الصليبية وقطع خطوط إمداداهتم إلجبارهم على رفع

) (1 ڤيتايل: التاريخ الكنسي، ص31 . ) (2 ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51 / 38 . ) (3 ابن القالنسي: ذيل اتريخ دمشق، ص134؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص110؛ ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 39؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/187 ، 230؛ ويندوفر: ورود التاريخ، 39/ 33 . ) (4 ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51 /38 . )5( الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص46 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 323 العدد الستون رجب 1442 هـ

احلصار عن املدينة من جهة، ومن جهة أخرى تتيح له إمكانية االجتماع ابلنجدات اإلسالمية خارج نيقية ملهامجة القوات الصليبية)1(، أما العنصر األخر من خطته فيقتضي ابلدفاع عن عاصمته فيما عرف حبرب احلصون الستنزاف القوات الصليبية بصورة كبرية، ولتحقيق ذلك وضعت حامية قوية يف املدينة للدفاع عنها، األمر الذي أكدته املصادر املعاصرة، فأشارت املؤرخة )2( ا ل ب ي زن طي ة أ نـ ا ك و من ي ن ا إ ىل ض خا م ة ق وا ت ا ل رت ك دا خ ل م دي ن ة ن ي قي ة ، أما املؤرخ وليم الصوري فذكر أبنه كان يف نيقية سكان كثريون، ذوو طاقات قتالية كبرية مع حب للحرب )3(، ولنا أن نتساءل هنا من الذي توىل قيادة احلامية العسكرية املدافعة عن العاصمة؟ إننا إذا أمعنا النظر يف املصادر اليواننية والالتينية، فالراجح أن اخلاتون زوجة قلج أرسالن ابنة األمري جكا هنضت بعبء الدفاع عن العاصمة، وكانت ة املدبراحلقيقية ألعمال الدفاع عن املدينة. و خب ص و ص ا مل صا د ر ا ل ي و انن ي ة جن د أ ن ه طب قا ً ل ر وا ي ة ا مل ؤ ر خ ة ك و من ي ن ا ف ق د كانت اخلاتون زوجة السلطان قلج أرسالن حاضرة يف املفاوضات اليت جرت بشأن تسليم نيقية ملبعوث اإلمرباطور مقابل ضمان سالمتهم عند خروجهم منها، وجاء يف الرواية: "بعد أن فرغوا من اجملامالت املأ لو فة أطلعهم بوتوميتس

)1( ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل ، 51 / 39؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية ، 1/ .231 )2( كومنينا: أل كسياد، ص420 . )3( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 230 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 324 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

)Boutoumites( على املرسوم السامي الذي معه من اإلمرباطور وهو مرسوم مل يقتصر على تزويدهم ابألمان فقط بل سخا عليهم إىل جانب ذلك بقدر كبري من املال، زايدة على إنعاماته التشريفية على أخت السلطان، وعلى زوجته")1(. أما يف املصادر الالتينية فإننا نشري يف هذا الصدد لرواية ألربت آخن وفيها: "قبض الصليبيون على صاحبة أو سيدة نيقية - وهذه العبارة يراد هبا يف املصادر الالتينية املتولية لشؤون املدينة ،- زوجة قلج أرسالن وهي تصرخ وأتمر األتراك أبخذها يف يلالل إىل البحرية، وابعادها")2( ، وأتيت رواية وليم الصوري موضحة دور اخلاتون وما حتملته من مشاق أثناء احلصار، يقول: "كانت زوجة قلج أرسالن قد حتملت حىت هذا احلني مشاق احلصار، لكن ب ص ع وب ة كبرية، أما اآلن فقد أصاهبا ذعر شديد بسبب اهنيار الربج، هلذا سارعت فأمرت إبعداد السفن، وغادرت املدينة خلسة، حتيط هبا جواريها وأ س ر هتا ب ق ص د ا ل ب ح ث ع ن م كا ن أ كث ر أ من ا ً " )3(. وجند رواية مشاهبة هلذه الرواية يف حولية املؤرخ ويندوفر، تقول: "أصيبت زوجة السلطان ابلرعب لسقوط الربج، ومل يعد لديها أمل، لذلك حاولت النجاة بشكل سري والفرار من املدينة عرب البحرية" )4(، إن هذه النصوص تدعم ما ذهبنا إليه أن اخلاتون

)1( كومنينا: أل كسياد، ص419 . ) (2 ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51 /43 . )3( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 241 – 242 . )4( ويندوفر: ورود التاريخ، 39/ 35.

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 325 العدد الستون رجب 1442 هـ

قامت أبعباء الدفاع عن املدينة، وال غرابة يف ، ذلكفقد كانت املرأة السلجوقية الوحيدة - يف النظام السياسي اإلسالمي- اليت مارست السلطة ب ش ك ل ق ا ن و ين ، أتث را ً ابلعادات والرتاث القبلي لقبائل الغز الرتكية اليت احندر منها السالجقة قبل قيام دولتهم، وملا دخلوا املشرق اإلسالمي، وأسسوا دولتهم نقلواإىل الدولة تلك املمارسات، ومنها املكانة املميزة لزوجة السلطان، فأصبح للخاتون د و راً ع س ك ر ايً أ سا سي ا ً يف ا ل د ول ة و ع د ت م ن املسؤولني العسكريني، وكانت تطالب هبذا الدور إل زا مي ا ً ل ك و هنا م ن ا مل ق طعني الكبار الذين يرتتب عليهم تقدمي خدمة عسكرية للدولة مقابل إقطاعاهتم. وأكدت املصادر اإلسالمية وجود قوات عسكرية اتبعة للخواتني بشكل دائم )1(. لذلك ت ولت زوجة السلطان قيادة احلامية العسكرية املدافعة عن نيقية طب قا ً ل ل رتا ت ي ب ا ل ع س ك ري ة ا ل س ل جوقية. أقام السلطان يف قلعة نيقية - مقر احلكم واإلدارة- يرقب عن كثب حتركات احلشود الصليبية، وملا علم بعبورهم مضيق البسفور، ترك القلعة وأرسل لألتراك - القبائل الرتكمانية- يف ا أل ان ض و ل طا ل ب ا ً ا ل ن ج د ة ، ف وا ف ا ه حسب بعض املصادر مخسمائة ألف مقاتل وفارس- ويف هذا ال ر قم الكثري من املبالغة- من آسيا الصغرى ووضعهم يف اجلبال جتاه نيقية )2(.

) (1 سبط ابن اجلوزي: مرآة الزمان، 1/221؛ عقلة، عصام مصطفى: املرأة والسلطة يف اإلسالم اخلواتني السلجوقيات أمنوذجا، حبثً منشور يف جملة دراسات العلوم اإلنسانية واالجتماعية، اجلامعة األردنية، سنة 2007، جملد: 34، ص 793 – 794 . ) (2 ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51 / 38 – 39 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 326 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

تدفقت جيوش صليبية نظامية جرارة إىل آسيا الصغرى حلصار مدينة نيقية، وحسب بعض املصادر املعاصرة فإن ضخامة اجليوش الصليبية املتوجهة إىل نيقية فرضت عليهم أن ينقسموا إىل قسمني، قسم عرب إقليم بيثينيا إىل نيقوميداي ووصلوا إىل نيقية، بينما عرب القسم اآلخر البسفور إىل كيبوتس اليت اختذوها قاعدة لتجمعاهتم )1(. بدء حصار نيقية وموقف السلطان قلج أرسالن : نيقية عاصمة سلطنة سالجقة الروم، وهي قائمة يف سهل فسيح اشتهر خبصوبة أرضه ووفرة حماصيله الزراعية، واملدينة حماطة اب جلبال من مجيع اجلهات)2( ، وت ع د جم م و ع ة ا جلب ا ل ح و هلا مبث ا ب ة خ ط ا ل دف ا ع ا أل و ل ع ن ا مل دي ن ة ) 3( ، وتشرف من الغرب على حبرية كبرية تدعى حبرية أسكان، وأشادت املصادر الالتينية املعاصرة هب ذه البحرية ل ك و هنا ما ن عا ً طب ي عي ا ً ي وف ر ا حل ما ي ة ل ل م دي ن ة م ن الغرب، أيد ذ لك رواية وليم الصوري، تقول: "أن مياهها تالمس أسوار املدينة، وجتلب السفن عرب هذه البحرية املؤن من خمتلف البقاع، وهذا احلال هو الدفاع األفضل الذي كان ابستطاعة املدينة أن حتصل عليه ) 4(، كما

)1( كومنينا: أل كسياد، ص415 . )2( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية ، 1/ 229؛ ڤيتايل: التاريخ الكنسي، ص38؛ ويندوفر: ورود التاريخ، 39/ 32 . ) (3 رميوند آجيل: اتريخ الفرجنة غزاة بيت املقدس، ص77؛ ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 39؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 229/1. )4( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 229 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 327 العدد الستون رجب 1442 هـ

أ حي ط ت ا مل دي ن ة خبندق وفر احلماية من بقية اجلهات)1 ( ، وميتلئ ابملياه من الينابيع واجلداول القريبة ) 2( ، وأثبت حبد ذاته أنه عائق خطري ملن يتقدم من املدينة بنية عدوانية ) 3( . وتتمتع املدينة مبوقع اسرتاتيجي هام فهي تتحكم ابلطرق الرئيسة اليت تعرب األانضول إىل الشرق ) 4( ، ومير منها الطريق احلرب )5( ا ل ب ي زن ط ي ا ل ق د مي ، و ال ي ب ع د عن ه كث رياً إ ىل ا ل ش ر ق ط ري قا ً آ خ ر ي عت رب ب دي الً عن ه . ف ض الً ع ن ذل ك ، ا شت ه ر ت ا مل دي ن ة ب ق و ة حت صي ن ها و من ا ع ة استحكاماهتا، فهي حماطة أبسوار عري ضة متينة البنيان ذات علو شاهق )6(، ويعلو األسوار )7( أبراج كث ري ة عا ل ي ة ج د اً ، حىت أن املدينة مل تكن ختشى هجوم األعداء، وال

) (1 رميوند آجيل: اتريخ الفرجنة غزاة بيت املقدس، ص77؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، .230/1 ) (2 رميوند آجيل: اتريخ الفرجنة غزاة بيت املقدس، ص77؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/230؛ Rosenmuller, The Biblical Geography of Asia Minor, Phenicia and Arabia, Tr: Morren, Edinburgh, 1841, p.p 10-11. )3( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 230 . Ramsay, op. cit., P.P. 74 -82. )4( )5( رنسيمان: اتريخ احلروب الصليبية ، 1/ 249 . ) (6 رميوند آجيل: اتريخ الفرجنة غزاة بيت املقدس، ص77؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص111؛ الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص46 – 47؛ ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 38؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1 / 230؛ ويندوفر: ورود التاريخ، 39/ 33- 34؛ ڤيتايل: التاريخ الكنسي، ص38 . ) (7 رميوند آجيل: اتريخ الفرجنة غزاة بيت املقدس، ص77؛ ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 328 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

قوة أية آلة )1(، وتتقارب املسافة ما بني األبراج، ونصبت جمانيق األبراج بشكل متناوب، حىت أن أحد مل يكن يستطيع التحرك ابلقرب منها، دون أن يتعرض للخطر. وإذا أراد أن يتحرك لألمام مل يكن بوسعه أن يلحق أي ضرر ألنه )2( سي ك و ن م ن ا ل س ه ل ج داً ض رب ه م ن أ عل ى ا ل رب ج ، إىل درجة أن رجالنا استولت عليهم الدهشة لدى رؤيتهم كتل التحصينات العمالقة هذه )3(، ويعكس هذا الوصف من جانب وليم الصوري حالة الذهول والفزع اليت أصيب هبا الصليبيني لرؤية تلك التحصينات العمالقة، األمر الذي يظهر أبن أورواب الغربية مل يكن لديها حىت هذا الوقت حتصينات ضخمة كهذه. وعليه، فإن غالبية من شارك يف هذه احلملة مل يكن لديهم سابق خربة ومعرفة يف قتال مثل تلك احلصون العمالقة، واعتمدوا يف ذلك على املساعدات اليت قدمتها بيزنطة يف هذا اجملال. زحف غو ريدف البويوين ) Godfry of Bouillen ( بقواته إىل نيقوميداي وعسكر هبا ثالثة أايم ) 4( ، وحلقت به قوات بومهيند بقيادة اتنكرد

األوىل، 51/ 38؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 230/1 . ) (1 رميوند آجيل: اتريخ الفرجنة غزاة بيت املقدس، ص77 . ) (2 رميوند آجيل: اتريخ الفرجنة غزاة بيت املقدس، ص77 . )3( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 230 . ) (4 جمهول: أعمال الفرجنة حجاج بيت املقدس، ص32؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص110؛ لالستزادة عن نيقوميداي ينظر: موسرتاس: املعجم اجلغرايف، ص51. وانظر ترمجة غودفري البويوين عند: الصوري: اتريخ احلروب الصليبية،152-151/2 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 329 العدد الستون رجب 1442 هـ

) Tancerd ( ، وشرا ذ م ما بقي من مجوع بطرس الناسك)1( ، وصحب هذه القوات ثلة من املهندسني البيزنطيني أبدوات احلصار لتقدمي املساعدة أثناء )2 ( حماصرة املدينة . اتب ع غ و دف ر ي ز ح ف ه جن و ابً اب جتا ه ن ي قي ة ، و ملا أ س دا ه اإلمرباطور البيزنطي ذو اخلربة يلةالطو يف حروبه مع سالجقة الروم واملدرك ألساليبهم القتالية من نصح ) 3(، التزم غودفري احليطة واحلذر يف مسريه وتقدم ببطء حنو نيقية ) 4( ، وأرسل أمامه فرقة من الكشافة لالستطالع، وقوة قوامها ثالثة آالف مقاتل ) 5(، ومهندسني بيزنطيني لتمهيد الطريق وتوسعته، ومتييزه بعالمات من الصلبان اخلشبية لتسرتشد هبا القوات الصليبية اليت تسلك الطريق ) 6( . وصل غودفري إىل نيقية يف 6مايو )أاير( 1097م/491ه، فعسكر أمام أسوارها)7(، تبعه يف اليوم ذاته قوات بومهيند، انتشرت القوات الصليبية بشكل

) (1 جمهول: أعمال الفرجنة حجاج بيت املقدس، ص32؛ ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 37 . انظر ترمجة اتنكرد: فؤاد الدويكات: إقطاعية طربية يف العصر الصلييب، أربد، مؤسسة محادة،2002،ص88-87 . )2( بردج: اتريخ احلروب الصليبية، ص68؛ رنسيمان: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 251 . )3( كومنينا: أل كسياد، ص405، 409. )4( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 224 . ) (5 جمهول: أعمال الفرجنة حجاج بيت املقدس، ص 33 . ) (6 جمهول: أعمال الفرجنة حجاج بيت املقدس، ص 33 . ) (7 جمهول: أعمال الفرجنة حجاج بيت املقدس، ص33؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص110 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 330 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

دائري مطوقة املدينة من مجع اجلهات )1(، وتفحص اجليش األسوار وشنوا اهلجوم عليها )2(، وعلى حد قول وليم الصوري على الرغم من أن صفوفها مل تكن مرتبة، ومل يكن قد مت االنتهاء من جتهيز املعسكرات )3(، أمطرت قوات املشاة الصليبية بوابل من السهام املدافعني إلبعادهم عن األسوار، لكن املدافعني رشقوهم بسحب من النبال من فوق، فكثرت فيهم اإلصاابت، وإذ رأ ى ق ا د ة ا ل ق وا ت ا ل صل ي ب ي ة أ ن ا أل سل و ب ا ل ذ ي ا ت ب ع و ه يف ا هل ج و م مل جي د ، ف ق د ارأتوا يف أعقاب اجتماع عقدوه رسم خطة جديدة حبيث حياصر كل امري )4( جهة من جهات املدينة ، وت ظ ه ر الرواية اليت نقلها لنا ألربت آخن أن القوات الصليبية افتقرت للخربة املناسبة يف حرب احلصون، واستلزم ذلك ا ل ت ح و ل إ ىل خ ط ة ب دي ل ة ، وا ل را ج ح أ ن ذل ك مت ب ن ا ءً عل ى م ش و ر ة ون ص ح م ن ا مل هن د س ني ا ل ب ي زن طي ني ا ل ذي ن را ف ق و ه م . و وف قا ً ل ل خ ط ة ا جل دي د ة ت و ز ع ت ا جلي و ش الصليبية حبيث حاصر بومهيند والقوات الفرنسية املدينة من اجلهة الشمالية، فيما حاصر غودفري نتوكو فالندرز املدينة من جهة الشرق، وتركت اجلهة اجلنوبية فارغة ريثما تصل قوات رميوند سانت جيل ) Raymond St.Giles(، وأسقف بوي، أما اجلهة الغربية فإهنا مل حتاصر لوجود البحرية،

)1( توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص110؛ ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل ، 51/ 38؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 225؛ ويندوفر: ورود التاريخ، 39/ 31 . ) (2 ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 38 . )3( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 231 . ) (4 ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 38 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 331 العدد الستون رجب 1442 هـ

واليت كان ينفذ منها املؤن واإلمدادات إىل املدينة )1(، أما اإلمرباطور البيزنطي فقد حترك بقواته إىل قرية بلكانوم )Pelekanum( ا ل ق ري ب ة م ن ن ي قي ة جا ع الً من ها م ق راً ل ع مل ي ا ت ه ا ل ع س ك ري ة ، ل ي ت سىن له متابعة التحركات العسكرية للسلطان خارج املدينة، ولريقب عن كثب تطور األحداث داخل مدينة نيقية )2(. وكان قلج أرسالن يف هذا الوقت يبث العيون واجلواسيس الذين ختفوا بلباس الصليبيني للتجسس على القوات الصليبية )3(. يف اليوم الرابع للحصار - 9 مايو 1097م/491ه- أرسل قلج أرسالن برجلني من استخباراته إىل املدينة لرفع الروح املعنوية للحامية، وحثها على الثبات حلني وصول النجدات اإلسالمية ملهامجة الصليبيني)4(، ويعنينا من ذلك ما جاء يف هذه ال ر وا ي ة : " سن ش ن عل ى ا ل ف و ر ه ج و ما ً م فا جئ ا ً عل ى معسكرهم عندما يكون مجيع اجلند قد احتدوا يف قوة واحدة، استعدوا من جا ن ب ك م مل سا ع دت ن ا عن د ما هنا ج م م ن ا خلا ر ج ، وا ست ع د وا أ ي ضا ً ل فت ح األبواب" )5(، فهذا النص يدل على أن اهلدف من الرسالة التنسيق بينهما

) (1 رميوند آجيل: اتريخ الفرجنة غزاة بيت املقدس، ص77؛ ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 38 . )2( كومنينا: أل كسياد، ص410 . ) (3 ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 39 . ) (4 ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 39؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 231- 232؛ ويندوفر: ورود التاريخ ، 39/ 33 . )5( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 232 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 332 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

واالستعداد لشن هجوم كاسح على القوات الصليبية يلحق هبم أفدح اخلسائر، حبيث يهاجم السلطان من اخلارج، بينما تقوم قوات احلامية ابخلروج م ن ا مل دي ن ة و م ها مج ة ا ل ق وا ت ا ل صل ي ب ي ة ف ي طب ق و ن م عا ً عل ى ا ل ق وا ت ا مل عا دي ة . ل ك ن مقتل أحد الرسل ووقوع اآلخر يف األسر، حال دون وصول تعليمات السلطان إىل احلامية، وحتت التعذيب أفصح األسري عن مضمون الرسالة اليت حيملها، وأبلغ القادة الصليبيني أبن السلطان عاقد العزم على مهامجة املدينة بشكل مفاجئ يف اليوم التايل - 10مايو 1097م /491 ه- )1(. وحبسب املصادر الالتينية قرر قادة احلملة الصليبية رفع أهبة االستعداد يف معسكراهتم، ومضاعفة احلراسة الليلية، وبعث غودفري برسالة عاجلة إىل ك ون ت ت ول و ز وأ س ق ف ب و ي ا ل ل ذي ن مل ي ك و ان ق د ا ل ت ح قا ابل ق وا ت ا حملا ص ر ة يدعومها للحضور على جناح السرعة ملساعدة إخواهنم يف حرب األتراك، و وف قا ً ملا أ و ر د ه ألربت آخن ووليم الصوري فقد شرع الكونت واألسقف ابل ر حي ل ف و راً ، وت ق د ما ط وا ل ا ل ل ي ل ، و و ص ال املعسكر يف الصباح املبكر قبل شروق الشمس )2(، لكن روايتهما مل تكن دقيقة، ألن قوات رميوند مل تصل إىل

) (1 ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 39؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 232؛ ويندوفر: ورود التاريخ، 39/ 33. ) (2 ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 39؛ الصوري: اتري خ احلروب الصليبية، 1/ 232؛ ويندوفر: ورود التاريخ، 39/ 33.

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 333 العدد الستون رجب 1442 هـ

نيقية إال يف 16 مايو 1097م/491هـ )1(، وبذلك فقد خلط ألربت ووليم بني هذا اهلجوم واهلجوم الذي وقع يف 16 مايو 1097م/491ه . يف صبيحة اليوم التايل - 10 مايو 1097م / 491 ه- شن قلج أرسالن ه ج و ما ً كا س حا ً ب ق وا ت ه ا ل يت ق د ر ها ألربت آخن بعشرة آالف فارس ) 2( ، بينما ق د ر ه م ول ي م ا ل ص و ر ي خب م س ني أ ل فا ً ) 3(، على القوات الصليبية، وعلى حد تعبري ول ي م ا ل ص و ر ي ، متا ما ً ك ما كا ن أ س ري ه م ق د ص ر ح م ن ق ب ل ) 4 ،( األمر الذي جيعلنا نؤكد أن هذا اهلجوم كان األول من جانب قلج أرسالن على القوات الصليبية ا حملا ص ر ة ل ن ي قي ة و سب ق ز من ي ا ً ب ست ة أايم وصول قوات رميوند إىل نيقية، يؤيد ذلك رواية بطرس توديبود أن حامية نيقية وبعد عودة قلج إىل مقر قيادته أرسلت له برسالة اثنية ملعاودة م اهلجوعلى القوات الصليبية من اجلهة اجلنوبية ألنه لن يعرتض طريقهم أو يضايقهم أحد ) 5( ، والراجح أن تكون هذه الرسالة قد وصلت يف الفرتة ما بني 12- 13 مايو 1097م / 491 ه . بعد تسلمه للرسالة جهز قلج أرسالن قواته ملهامجة القوات الصليبية، وسري فرقة من قواته زحفت ابجتاه نيقيةيف تشكيلني، أحدمها اجته ملهامجة غودفري

) (1 جمهول: أعمال الفرجنة حجاج بيت املقدس، ص34؛ الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص46 . ) (2 ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 39 40- . )3( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 233 . )4( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 233 . )5( توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص110 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 334 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

والقوات احملاصرة للمدينة من الشرق، بينما هتاجم الفرقة األخرى املدينة من ا جلن و ب ظن ا ً من ه أ ن ه ذ ه ا جل ه ة ما زا ل ت أ ق ل ا جل ها ت محا ي ة وت د خ ل ا ل ب ا ب اجل نوب وخترج من ابب آخر، ف ت بي د بذلك، وبسهولة القوات الصليبية اليت مل تكن تتوقع ذلك اهلجوم، -وقد وقع هذا اهلجوم يف 16 مايو 1097م/491 ه- وكان رميوند قد وصل لتوه من القسطنطينية وكان من ه م كا ً بتجهيز معسكره، وحبسب املصادر الالتينية متكن من التصدي للفرقة السلجوقية اليت حا لتو دخول املدينة من اجلنوب، كما تصدت قوات غودفري للفرقة األخرى اليت هامجتهم ) 1(، لكن رواية املؤرخة البيزنطية كومنينا واليت استمدهتا من اتتيكيوس ) Taticius( قائد القوات البيزنطية املشاركة يف حصار نيقية تؤكد أبن الكونت رميوند الصنجيلي مل ي تم كن من التصدي للفرقة السلجوقية إال بفضل املساعدة اليت قدمها الكونتات ومنهم بومهيند ) 2(، وهكذا فإن الغارة اليت شنتها قوات قلج أرسالن على البوابة اجلنوبية كانت موفقة حبيث عجزت قوات رميوند عن التصدي هلا مبفردها، وم هما يكن فقد دارت بينهما معركة شرسة حىت حجز الليل بينهما ) 3(.

) (1 جمهول: أعمال الفرجنة حجاج بيت املقدس، ص34- 35؛ رميوند آجيل: اتريخ الفرجنة غزاة بيت املقدس، ص77؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص110- 111؛ الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص46. )2( كومنينا: أل كسياد، ص416 . )3( كومنينا: أل كسياد، ص416 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 335 العدد الستون رجب 1442 هـ

يف صبيحة اليوم التايل -17 مايو 1097م/491ه- برز السلطان يف كامل سالحه وأنزل رجالة السهل الواقع خارج أسوار نيقية، واستعدت القوات الصليبية للقاء )1(، وملا علم اإلمرباطور البيزنطي بتصميم السلطان على القتال تقدم لالستيالء على البحرية للحيلولة دون دخول السلطان للمدينة من خالهلا )2(، وتذكر الرواايت أن معركة شرسة نشبت بني الطرفني استمرت طيلة النهار، وإن مل تسفر عن نتيجة حامسة، ووضع الليل هناية هلذا القتال الذي سقط فيه الكثريون من اجلانبني، وانسحب السلطان بقواته إىل مواقعهم )3(، و وف ق ا ً لراوية صاحب اجلستا وتوديبود جتمع الرتك مرة خرى وعا ودوا اهلجوم على القوات الصليبية )4(، ويف هذا الصدد يقرر املؤرخ األرمين م ىت ا ل ر ها و ي أ ن ا ل سل طا ن ق ل ج أ ر س ال ن أ عا د ت ن ظي م ق وا ت ه ، و ش ن ه ج و ما ً ج دي داً - بعد ثالثة أايم من اهلجوم األول- 20 مايو 1097م/491 ه- ونشب قتال عنيف بني الطرفني ودارت الدائرة على سالجقة الروم وهزم السلطان )5( ، وهو ما يتفق مع منطق األحداث لكون املعركة األوىل مل تسفر عن نتيجة

)1( كومنينا: أل كسياد، ص416 . )2( كومنينا: أل كسياد، ص418 . )3( كومنينا: أل كسياد، ص416 . ) (4 جمهول: أعمال الفرجنة حجاج بيت املقدس، ص34؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص110. )5( الرهاوي: اتريخ مىت الرهاوي، ص 71.

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 336 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

حامسة، نالحظو أن هذه اهلزمية كانت شديدة على السلطان ن ظ راً ل ع د م وصول جندات إسالمية، لذلككف عن حماوالته فك احلصار عن املدينة. استسالم مدينة نيقية: حني وجد قلج أرسالن نفسه حيارب على جبهتني يف آن واحد اإلمرباطورية البيزنطية بثقلها العسكر ي ، وا ل ق وا ت ا ل صل ي ب ي ة ا ملت ف وق ة عل ي ه ت ف وق ا ً ع د د ايً ها ئ الً . آ ث ر ا الن س حا ب إ ىل ا جلبال احمليطة بنيقية إلعادة تنظيم جيشه، وحماولة االتفاق مع القوى اإلسالمية داخل األانضول وخارجها للتكاتف م عا ً ل ص د ا خل ط ر ا ل صل ي يب ا ل ذ ي ي ه د د ه م مجي عا ً . ا أل م ر ا ل ذ ي ت رت ب عل ي ه ت ف رغ القوات الصليبية البيزنطية إلسقاط نيقية. أسهبت املصادر الالتينية املعاصرة ابحلديث عن الفعاليات اهلجومية اليت نفذهتا القوات الصليبية ضد نيقية، وهنا يذكر املؤرخ رميوند آجيل: "نصبنا ا آل ال ت وق ص فن ا ا ل س و ر د و ن أ ي ن ت ي ج ة . كا ن ا ل س و ر ال ي ـ خرتق. وكان الدفاع اجلسور ابألسهم واآلالت يبعث على اإلحباط" )1(. وقد عرب وليم الصوري عن اإلحباط واليأس الذي متلك الصليبيني، بقوله: "أقام سكان املدينة االستعدادات ملقاومة عدوهم بكل قوة، فقد واجهوا اخلدعة ابخلدعة، والقوة ابلقوة، وأظهروا شجاعة مل تكن أقل من شجاعة املسلمني، وقاوموا كرجل واحد ابلقسي وأالت املنجنيق، وأدوات القذف احلربية، وكل سالح ميكن

) (1 رميوند آجيل: اتريخ الفرجنة غزاة بيت املقدس، ص78 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 337 العدد الستون رجب 1442 هـ

ختيله، لصد العدوان، وجتنب اخلسائر املوجهة إليهم " )1(، وتوضح روايته هذه أ ن حا مي ة ن ي قي ة ا ل ع س ك ري ة مل ت ب د خ وف ا ً و ج ز عا ً م ن ض خا م ة ا حل ش و د ا مل ها مج ة وإمنا احتفظت برابطة جأشها وشجاعتها واستماتت يف الدفاع عن املدينة، وحيدثنا فوشيه الشارتري حديث شاهد عيان، يقول: "حارب رجال أعدائنا و ر جا ل ن ا ك راً وف راً ب ك ل ما أ وت وا من قوة، وطاملا هامجنا املدينة آبالتنا احلربية، لكن مناعة األسوار أحبطت هجومنا، وقد سقط عدد كبري من االتراك ومن رجالنا مصابني ابلسهام أو احلجارة" )2(، وكانت اخلطة الدفاعية املرسومة للدفاع عن املدينة تقوم على منع القوات املهامجة االقرتاب من األسوار، يؤيد هذا ما أشار إليه فوشيه الشارتري بقوله: "كان األتراك يقتلون أي رجل من رجالنا يقرتب من السور" )3( ، وقد كفلت هذه اخلطة احلماية من عمليات النقب وتوهني األسوار، لذلك كان على قادة احلملة أن ي ت دب ر وا ح الً ل ل خ ر و ج من هذا املأزق، هنا بدأت حماوالت تقويض األسوار، غري أن املدينة كانت ابلغة املناعة مناعة جتعلها عزيزة املنال )4(، وأخفق رميوند الصنجيلي واسقف بوي بتقويض أحد أبراج املدينة من اجلهة اجلنوبية، وما أحدثوه به من ضرر )5( أصلحه املدافعون ل ي الً وب ن وا س و راً ج دي د اً ، مث جنح الصليبيون بعمل فتحة يف

)1( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 237 – 238 . )2( الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص46 47-. )3( الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص47. )4( كومنينا: أل كسياد، ص418 . ) (5 رميوند آجيل: اتريخ الفرجنة غزاة بيت املقدس، ص78؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 338 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

السور تسمح بعبور شخصني، لكن املدافعني منعوهم من الدخول خالهلا برميهم ابلسهام واملنجنيقات بشدة، فكبدوهم خسائر فادحة يف األرواح )1(، مث قاموا ببناء برج خشيب متحرك، لكن ما أن دفعوا به حنو السور هلدم جزء منه حىت عطبة املدافعني وسق ط ب ك ل م ن ف ي ه وق ت ل وا مجي عا ً )2(، ومن دراستنا للنصوص املتعلقة هبذه القضية جند أن املقاومة العنيفة كا ن هلا أ ث راً ال ي ست ها ن به يف حت طي م م عن و اي ت ا ل صل ي ب ي ني ، ف ا شت د ت معاانهتم، وشعروا ابليأس واإلحباط، بل إن تدهور معنوايهتم يف هذا الوقت كاد أن يدفعهم للتخلي عن غايتهم إبسقاط نيقية، وال بد من اإلشارة هنا لرواية وليم الصوري عن ذل ك ، م ؤك داً : "أ ن ه عن د ما رأ وا أ ن أ ي ج ز ء م ن الـمنسوف خالل النهار كانت تتم إعادة بناءه وترميمه أثناء الليل التايل، بدأوا ابلرتاخي ابحلال يف بذل جهودهم بعض الشي ء ، و مبا أ هن م ال ح ظ وا أ ن ع مل ه م مل ي ال ق أ ي جنا ح ، ف ق د كانوا على وشك التخلي عن غايتهم" )3(. أمام هذا الوضع، اقتضت الضرورة التدخل من جانب اإلمرباطور النتشال بيزنطة من اهلاوية اليت ستسقط فيها، فقد كان اإل م ربا ط و ر م وق ن ا ً أ ن ه لو فشل احلصار وختلى الصليبيني عن التزامهم إبسقاط نيقية، فسيتغري ميزان

املقدس، ص111 . ) (1 ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 41؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ . 239 – 238 ) (2 ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 42 . )3( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 239 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 339 العدد الستون رجب 1442 هـ

القوى من جديد، وستعود لسالجقة الروم قوهتم ومحاستهم، وسيعودون سريهتم األوىل لالستيالء على القسطنطينية خاصة بعدما تكشفت احلقائق واجنلت عن التحالف البيزنطي الصلييب ضد سالجقة الروم. وقد عربت كومنينا عن قناعة والدها بعجز الصليبيني عن اسقاط نيقية بقوهلا: "كان على ثقة اتمة ابستحالة متكن الالتني من اقتحام نيقية بفضل مناعة أسوارها مناعة جتعلها عزيزة املنال" )1 (، وتستأنف كومنينا حديثها مؤكدة يف الوقت نفسه أن والدها أدرك متام اإلدراك أنه رمبا ال يكون من املمكن لالتني أن يستولوا عليها مهما بلغوا من الكثرة العددية )2(، فإسقاط املدينة يلزمه أحكام احلصار حوهلا مبنع وصول املؤن واإلمدادات عن طريق البحرية، وكانت قوارب السالجقةيف البحرية متد املدينة بكل احتياجاهتا وكان مبقدورهم اخلروج والعودة حمملني ابلعلف واألخشاب وغري ذلك من الغالت )3(، ولتحقيق ذلك أرسل اإلمرباطور بضع سفن خفيفة نقلوها على العرابت وأنزلوها يف البحرية، ومألها ابلعسكر وهم يف كامل سالحهم احلرب حتت قيادة مانويل بوتوميتس، كما أرسل قوات برية بقيادة اتتيكيوس )Taticius( لالستيالء على القلعة )4(، وليس هذا فحسب، بل شيد وسائل دفاع خمتلفة اطاألمن مما مل

)1( كومنينا: أل كسياد، ص418 . )2( كومنينا: أل كسياد، ص418 . ) (3 جمهول: أعمال الفرجنة حجاج بيت املقدس، ص 36 . )4( كومنينا: أل كسياد، ص418 -419؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 237 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 340 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

يسبقه إليها أحد، مث أرسل هذه اآلالت إىل الكونتات )1 (، س عي ا ً من ه ل ت ح قي ق هدفه إبسقاط نيقية. متت السيطرة على البحرية وأحكم حصار املدينة يف 18 يونيو )حزيران( 1097م /491ه، ومأل اخلندق احمليط ابملدينة ابألتربة حىت استوى بسطح األرض من كال اجلانبني، وشرعت القوات الصليبية ابالقرتاب من األسوار )2(. يف ليلة 18 يونيو وضعت اخلطة من جانب قادة احلملة الصليبية لشن هجوم شامل على املدينة، وحتدد اليوم التايل -19 يونيو- لبدء اهلجوم. يف هذه األثناء فتح ابب املفاوضات بني اخلاتون زوجة قلج أرسالن، وبني ممثل اإلمرباطور البيز نطي بوتوميتس)3(، وإذ أدركت احلامية أال جدوى من املقاومة خت وف ا ً م ن ح ر ب م هل ك ة ، ف ق د ا ر أت وا ت سل ي م ا مل دي ن ة ، وت ع ز و ا مل صا د ر ا ل الت ي ن ي ة السبب يف ذلك لعلمهم أهنم لن يستطيعوا تلقي أية جندة من جيوشهم )4(، وهذا السبب ب د و ن ش ك ه و ا ل ذ ي دف ع ا مل ؤ ر خ وي ن د وف ر ل ل ق و ل : "أ هن م أ رغموا

)1( كومنينا: أل كسياد، ص418 . )2( كومنينا: أل كسياد، ص417؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية ، 1/ 237 - 238 .

)3( كومنينا: ألكسياد، ص418 - 422؛ لالستزادة ي نظر: جمهول: أعمال الفرجنة حجاج بيت املقدس، ص36 -37؛ رميوند آجيل: اتريخ الفرجنة غزاة بيت املقدس، ص78؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص111؛ الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص47. ) (4 جمهول: أعمال الفرجنة حجاج بيت املقدس، ص37؛ رميوند آجيل: اتريخ الفرجنة غزاة بيت املقدس، ص78؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص111 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 341 العدد الستون رجب 1442 هـ

على االستسالم" )1(، بعد أن فشلت اجلهود الصليبية لالستيالء على نيقية بسبب اإلجراءات الدفاعية اليت اختذها السلطان، وبسالة احلامية املرابطة فيها. يف صبيحة 19 يونيو 1097م / 491 ه استسلمت املدينة لإلمرباطور ) 2(، ودخلت القوات البيزنطية املدينة من الباب املطل على شاطئ البحرية ) 3(، و ع د ذل ك أ م راً ابل غ ا أل مهي ة ، ملا مت خ ض عن ه م ن ن ت ا ئ ج م ه م ة . ف ق د خ س ر ا ل سل طا ن عاصمة ملكه، وما جتمع فيها من ثروات كبرية، ومبوجب معاهدة االستسالم أرغم السلطان على إطالق سراح مجيع األسرى الذين أسرهم من قوات بطرس الناسك، كما اطلق سراح األسرى الذين أسرهم سكان املدينة ) 4( ، ومت االستيالء على ممتلكات سكان املدينة من ذهب وفضة وغري ذلك لتصبح مل كا ً ل إل م ربا ط و ر ) 5(، وأمكن بفضل هذه املعاهدة إعادة نيقية لإلدارة البيزنطية )6 ( ا ملب ا ش ر ة ، و ع ني اجلنرال بوتوميتس د وق ا ً ل ل م دي ن ة ، ووضع فيها حامية عسكرية قوية للدفاع عنها ) 7(، وبذلك أتكدت السيادة البيزنطية عليها.

)1( ويندوفر: ورود التاريخ، 39/ 36. )2( كومنينا: أل كسياد، ص420 . )3( كومنينا: أل كسياد، ص420 . )4( الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص47؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 242 . )5( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 243 . )6( كومنينا: أل كسياد، ص422 . )7( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 243 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 342 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

أما النتائج غري املباشرة فجاء إ س قا ط ن ي قي ة ت ت و جيا ً ل سي ا س ة اإلمرباطور ضد سالجقة الروم، وتصديه هلم وفق خطة بيزنطية حمكمة وضعها وأشرف على تنفيذها بنفسه)1(، وبسقوط نيقية أجربهم على اخلروج منها، وهو أمر يف غاية األمهية إذا وضعنا يف اعتباران الدور الذي لعبه قلج أرسالن يف إعادة إحياء السلطنة وتثبيتها، وإبخراجهم منها ضمنت بيزنطة محاية مأمونة للقسطنطينية من أية اعتداءات من جانبهم )2(. معركة ضوروليوم 1يونيو)حزيران(1097م/491 ه: مل يفقد قلج أرسالن رابط جأشه، وقدرته على القيادة والتخطيط يف أعقاب تلك اهلزمية. وراح يعد العدة كي يثأر من الصليبيني)3(، ولتحقيق ذلك، شرع بتشكيل حلف إسالمي لدرء اخلطر الصلييب ومنعه من التوغل يف األانضول، وقد جنح يف اقناع األمري الدانشمندي كمشتكني أمحد بن الدانشمند )477 – 499هـ/1084 -1105م(، واألمري حسن أمري كبادوكيا ابالنضمام إىل احللف. وكانت الظروف الصعبة اليت متر هبا املن طقة تتطلب تناسي خالفاهتم مع قلج أرسالن للتصدي للجيوش الصليبية والبيزنطية )4(، كما انضم إىل احللف جمموعة من األمراء، ويذكر فوشيه الشارتري الذي انفرد هبذه الرواية ما نصه: "جتمعوا مطيعني أوامر سليمان -

)1( كومنينا: أل كسياد، ص410 . )2( زابوروف: الصليبيون يف الشرق، ص74 . )3( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 245 . )4( كومنينا: أل كسياد، ص424؛ ڤيتايل: التاريخ الكنسي ، ص43 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 343 العدد الستون رجب 1442 هـ

قلج- وأتوا إىل معونته من م س ري ة ث الث ني ي و ما ً . كا ن م ع ه كث ري م ن ا أل م را ء مث ل أمري كرادجيم، وأمري ايثوس وغريهم")1(، ومل نتمكن من حتديد هذه األمساء املبهمة، لكن الراجح لدي بعد إمعان النظر يف رواية الشارتري أن هؤالء من أمراء الناوكية، الذين دان وا ابلطاعة آلل قتلمش الزعماء التارخييون املعرتف هبم للغز الناوكية )2(، كما استنفر كل القادرين على محل السالح من القبائل الرتكية يف آسيا الصغرى. فتجمعت لدية قوة كبرية من املقاتلني)3(. يف 26 يونيو )حزيران( 1097م/491ه، غادرت مقدمة اجليش الصلييب مدينة نيقية، مث تبعها يف اليومني التاليني سائر القطعات الصليبية، وتوقفت هذه احلشود عند جسر جكسو يف قرية لوكي )Leuce( ) 4(، وبرفقتهم فرقة من اجليش البيزنطي يقودها اتتيكيوس)5(، وهنا عقد قادة احلملة ا جت ما عا ً للتشاور والبحث يف مسألة التموين، وللتغلب على هذه املشكلة جرى تقسيم اجليش الصلييب إىل قسمني: قسم حتت قيادة بومهيند وزحف يف 26 يونيو، على أن يسري من طريق، وقسم حتت ق ي ا د ة ر مي ون د ك ون ت ت ول و ز وي سل ك ط ري قا ً

)1( الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص48 . )2( عقلة، عصام: الناوكية يف بالد الشام ، ص 39 40-، 45 46- . ) (3 جمهول: أعمال الفرجنة حجاج بيت املقدس، ص39؛ رميوند آجيل: اتريخ الفرجنة غزاة بيت املقدس، ص79؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس ، ص112؛ الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص48؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 245 . ) (4 جمهول: أعمال الفرجنة حج اج بي ت املقدس، ص 38؛ كومنينا: أل كسياد، ص424 . )5( كومنينا: أل كسياد، ص424 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 344 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

ختتلف عن الطريق اليت سلكها اجليش األول وزحف يف 28 يونيو، و تشري املؤرخة أان كومنينا أن بومهيند اختذ طريقة إىل أسكي شهر )1(. أرسل قلج أرسالن عيونه يتعرفون أخبار القوات الصليبية عدهتم وهيئتهم، وسرد لنا وليم الصوري رواية تشري إىل ذلك، يقول: "زوده كشافوه - االستخبارات العسكرية- ابستمرار مبعلومات عن حتركات احلشد املتقدم، وانتظر بتلهف فرصة مواتية للهجوم عليه، وكان قد علم لتوه من خالل هؤالء الكشافة أن اجليش قد انشطر، وأن الشطر الذي هو من الواضح أنه أكثر ض ع فا ً ، وأ ق ل ق و ة ، وأ ق ل ع د داً كا ن ابل ق ر ب من ه ، ف ق ر ر عل ى ا ل ف و ر أن الفرصة قد حانت" )2(. بينما تذكر املؤرخة كومنينا أبن استخبارات قلج أرسالن اخفقت يف تقصي أخبار اجليش وعدده وعدته، تقول: "سرعان ما نشبت معركة عنيفة بني اجلانبني وكان الظن عند الرتك أن ما يرون إمنا هو كل اجليش الفرجني" )3(. و يبدو من هذه الرواية أن كومنينا حتاول أن حتمل قلج أرسالن مسؤولية اهلزمية يف ضوروليوم، وليس خباف علينا أن السبب يف ذلك ما تكنه لسالجقة الروم من بغض وكراهية، إذ منذ أن وطئت أقدامهم آسيا الصغرى

)1( كومنينا: ألكسياد، ص424؛ لالستزادة ي نظر: جمهول: أعمال الفرجنة حجاج بيت املقدس، ص38؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص112؛ ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 44؛ ويندوفر: ورود التاريخ، 39/ 38 . )2( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/ 245 . )3( كومنينا: أل كسياد، ص424 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 345 العدد الستون رجب 1442 هـ

وهميف صراع مع بيزنطة فيقتطعون من أمالكها، ويرسخون أقدامهم يف أراضيها. ا ست ع د ق ل ج أ ر س ال ن وق وا ت ه ل ل قا ء ا ملن ت ظ ر ون ص ب ك مي ن ا ً يف جن ب ا ت ا ل سهل الذي ستعربه قوات بومهيند. ويف ضوء رواية فوشيه الشارتري عسكرت القوات الصليبية يف سهل قرب ضوروليوم، وقد علموا من خالل كشافتهم أبن األتراك ن صب وا هل م ك مي ن ا ً " و صل ت ن ا ت قا ري ر أب ن ا ألت را ك ن صب وا ل ن ا ش ركا ً يف س ه ل ظن وا أ ن ه يتوجب علينا اجتيازه، وتوقعوا أن حياربوان هناك، وملا استطلع كشافتنا يف ذل ك ا مل سا ء كث رياً م ن األتراك على بعد منا أعلموان بذلك على الفور، فأقمنا احلراس طوال الليل حيمون اخليام من مجيع النواحي" )1(. غري أان نشك يف صحة هذه الرواية وإال فلماذا مل يرسل بومهيند برسله إىل قوات اجليش الثاين الطالعهم على حقيقة ما جيري وحيثهم على سرعة التحرك ملساعدته، كما أن سري األحداث وما قدمه ألربت آخن يف روايته من تفاصيل ال ينسجم وما ذهب إليه فوشيه يف روايته. أثناء عبور بومهيند وقواته سهل ضوروليوم صبيحة يوم األول من يونيو)حزيران( 1097م/491ه، انقض عليهم قلج أرسالن بقواته، ويؤكد ألربت آخن يف روايته إنه ما كاد جيش بومهيند ينزل عن اخليول، حىت فاجأهم قلج أرسالن ابهلجوم )2(، بينما تؤكد رواايت شهود العيان أن خفراء الصليبيني

)1( الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص47 . ) (2 ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 44 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 346 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

حملوا القوات اإلسالمية عن بعد فأنذروا اجليش، حينذاك سارع بومهيند لتنظيم قواته للمعركة، فأمر بتجميع األمتعة واحلشد العاجز عن القتال يف أيكة ق ص ب جما و ر ة وأ حا ط ه م ابل ع ر اب ت وا آل ال ت ، وب ع ث ب و مهي ن د ر س و الً إ ىل ا جلي ش الصلييب الثاين حيثه على سرعة الوصول للقتال إىل جانب إخواهنم يف هذه املعركة )1(. يف الساعة الثانية لشروق مشس ذلك اليوم برزت قوات قلج أرسالن فأاثرت الرعب يف صفوف الصليبيني ألهنم مل يروا سوى الفرسان )2(، وما ان أ ق رت ب ا ل س ال ج ق ة م ن ا ل صل ي ب ي ني ح ىت أ ح دث وا ص خب ا ً و ض ج ي جا ً ع ظي ما ً حبي ث مل ي ك ن م ست طا عا ً متييز أي كلمة فيه، رنني السالح، صهيل اخليول، أصوات األبواق، قرع الطبول املثري للرعب، صرخات اجلنود التواقة للحرب »هللا أكرب«، روعت قلوب القوات الصليبية اليت مل تكن معتادة مثل هذه األساليب من قبل )3(، وقد منع هذا الصخب والضجيج خيول الصليبيني من

) (1 جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص 38- 39؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص112؛ الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص 47 – 48؛ كومنينا: أل كسياد، ص424 . )2( الشارتري: اتريخ احلمالت إىل القدس، ص48 . ) (3 جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص38 -39؛ الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص48؛ ال صوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1 / 246؛ ويندوفر: ورود التاريخ، 39/ .37

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 347 العدد الستون رجب 1442 هـ

إطاعة األوامر والتقدم )1(، ما أن اقرتبت القوات اإلسالمية من الصليبيني حىت أمطروهم بوابل من السهام مأل الفضاء مثل الربد، وكان لذلك وقعه الكبري عليهم، إذ ندر ما سلم منهم أحد دون أن يصاب جبراح، ومل يكد ينقطع الوابل األول حىت تبعه آخر من السهام أصاب كل من جنا ابلصدفة من الوابل األول، وقتل كثري من خيول الصليبيني )2(، حاول بومهيند اللجوء إىل قتال االلتحام، فتنبه السالجقة لذلك، وأخذوا ابلرتاجع وفتح الصفوف لتجنب االصطدام، وانطلت هذه اخلدعة على الصليبيني، مث أعاد السالجقة ضم صفوفهم من جديد، وأطلقوا وا ب الً كث ي فا ً م ن ا ل س ها م كزخات املطر، قلما جنا أحد منهم دون أن يصاب جبروح خطرية )3(، كثف السالجقة الضغط على القوات الصليبية اليت انتاهبا الضعف، وطوقوا املعسكر الصلييب األمر )4( ا ل ذ ي ج ع ل ه ر و هب م م ست حي ال ً ، حينئذ هامجوهم ابلسيوف من مسافات قريبة، وختلوا عن استخدام القوس، فوقع االضطراب يف صفوفهم. وقتل منهم

)1( ويندوفر: ورود التاريخ، 39/ 38. ) (2 جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص 39؛ الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص 48؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 246/1 . )3( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 247/1 . ) (4 جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص 39؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص112؛ الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص 48؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/247؛ ويندوفر: ورود التاريخ، 39/ 37 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 348 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

قرابة ألفي فارس من ذوي املكانة، والذوا ابلفرار )1(، وارتد بومهيند مهزوما ً وق د اثخنته اجلراح )2(. وفيما كانت قوات بومهيند قاب قوسني أو أدىن من فناء حمقق، أتتهم النجدة من اجليش الثاين، واليت كانت مؤلفة من الفرسان فقط )3(، وال ريب أن وصول هذه القوة اليت قدرها وليم الصوري أبربعني ألف فارس )4(، بينما قدرهم ألربت آخن بستني ألف فارس )5(، أحدث مفاجأة مذهلة لقلج أرسالن، الذي مل يستطع أن حيول دون اجتماع اجليشني، حينها أدرك أال قدرة له على جماهبة قوات تتفوق عليه يف العدد والعدة على حنو هائل، وأن احلكمة العسكرية حتتم عليه االنسحاب من ساحة املعركة، لكن حتقيق االنسحاب اآلمن يعد من أصعب وأخطر العمليات القتالية الحتمال حتوله إىل هزمية يف صفوف القوات املنسحبة. ولعل سرعة حترك الصليبيني مل تتح له الوقت لالنسحاب من املعركة. فقد أعاد قادة الق وات الصليبية تنظيم قواهتم على عجل، فوضع على امليسرة بومهيند وروبرت النورماندي واتنكرد، أما يف

)1( توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص112؛ ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل ، 51/ 44؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/247؛ ويندوفر: ورود التاريخ، 39/ 37 - .38 ) (2 ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 44 . )3( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 247/1 . )4( الصوري: اتريخ احلروب ال صليبية، 247/1 . ) (5 ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 45 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 349 العدد الستون رجب 1442 هـ

امليمنة فكان رميوند الصنجيلي وغودفري وروبرت كونت الفالندرز )1(، وأرسل خلف قوات قلج أرسالن قطعة من اجليش الصلييب بقيادة أدهيمار ملهامجتهم بصورة مفاجئة )2(، وشنت هذه القوات هجومها على القوات الرتكية مستغلة حالة االرتباك اليت أصابت السالجقة، ومحلوا على ما أمامهم، فانكفأ السالجقة مهزومني وتكبدوا خسائر فادحة يف األرواح )3(، واستوىل الصليبيون على مغامن هائلة من سالح واموال ومتا ع وخيول ومجال -مل يعتادوا رؤيتها يف بالدهم- )4(. ويف رأيي فإن قلج أرسالن م ال م ويتحمل إىل حد ما تبعة ما حل بقواته من هزمية قاسية، فقد علم من استخباراته أن اجليش الصلييب قد انقسم إىل ق س م ني ، وق د أ خت ا ر أ ن ي ها ج م ا ل ق س م ا ل ذ ي ا عت ق د أ ن ه ا ألق ل ع د داً وا أل كث ر ض ع فا ً ، ل كن ه ا س ق ط م ن حساابته القسم اآلخر من اجليش، وهو على درجة من القوة ال يستهان هبا، وكانت احلكمة العسكرية تتطلب منه بناء خطته على تثبيت اجليش الثاين ومنعه من التحرك من مواقعه بقوة صغرية لضمان

) (1 جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص 40؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص113 . )2( توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص113 . ) (3 جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص 41؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص113- 114؛ الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص 50 . ) (4 جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص 41؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، .248/1

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 350 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

عدم قدرته على الوصول للقوات األخرى إذا ما اقتضت الضرورة ذلك، بينما يركز وقواته اهلجوم على اجليش األول حىت يتسىن له القضاء عليه - وكاد هذا اهلدف أن يتحقق- مث ينتقل جبموعه للتعامل مع اجليش الثاين. لكن ذلك مل حيصل. عدت نتيجة هذه ا مل ع رك ة يف غا ي ة ا أل مهي ة ، و مث ل ت من ع ط فا ً ها ما ً يف املواجهات اليت تلتها على جبهات آسيا الصغرى بني الصليبيني واألتراك يف ضوء النتائج اليت متخضت عنها وهي: - فيما يتصل بسالجقة الروم تكبدوا خسائر فادحة يف األرواح واملعدات، فتدهورت السلطنة، األمر الذي ترتب عليه انتهاج أ سل و ب ج دي د يف اجملاهبة اعتمد سياسة األرض احملروقة حلرمان الصليبيني من موارد املناطق اليت ميرون هبا ، أ م الً يف إضعاف قدرهت م عل ى ا مل ض ي ق د ما ً يف مشروعهم. يتجلى ذل ك وا ض حا ً م ن ر وا ي ة ا مل ؤ ر خ ا ل ع ظي م ي، تقول: "واقعهم الدانشمند، وابن سليمان - قلج أرسالن- وأحرقوا بني أيديهم املعاقل وسدوا املناهل فهلك منهم خلق عظيم" )1(، ويف االجتاه ذاته تتحدث املصادر الالتينية عن قيامهم بتخريب املدن والقرى حىت استحال على الصليبيني أن يلتمسوا ما يقتاتون به عند زحفهم )2(.

)1( العظيمي: اتريخ حلب ، ص358. ) (2 جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص 43؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص115؛ الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص 52؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 253/1 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 351 العدد الستون رجب 1442 هـ

- يف اجلانب الصلييب، فقد حازوا غنائم هائلة من السالجقة، عوضتهم عما فقدوه يف بداية املعركة وخاصة من اخليول )1(، واألهم من ذلك، ارتفاع روحهم املعنوية حىت بدا أن ليس مثة شيء ميكن أن يقف يف طريقهم )2(، وقررت هذه امل ع رك ة س ري ا حل ر ب ال ح قا ً يف آ سي ا ا ل ص غ ر ى ، وا ن فت ح ا ل ط ري ق أمامهم إىل بالد الشام )3(. واحلقيقة أن معركة ضوروليوم أحدثت ردة فعل ع مي ق ة يف ن ف و س ا ل صل ي ب ي ني ، ف ق د عل مت ه م أ ن ي ز ح ف وا يف مج و ع مت ح د ة جتن ب ا ً خلسائر فادحة كاليت خسروها يف ضوروليوم، كما أن املعركة جعلتهم يولون سالجقة الروم ما ي ست ح ق ون ه م ن ا ح رتا م ت ق دي راً ل ش جا عت ه م وإقدامهم، يبدو ذل ك جل ي ا ً ف ي ما س ط ره مؤرخو احلملة األوىل من إعجاب وتقدير لشجاعة األتراك )4(. - أ ما ابل ن سب ة ل ب ي زن ط ة ، ف إ هنا وا ست غ ال الً هل زائم سالجقة الروم فقد أخذت ابستعادة األقاليم اليت كانت أبيديهم على السواحل الشمالية الغربية، والسواحل الغربية، واجلنوب الغرب من األانضول و ذل ك طب قا ً ل الت فا ق ي ة ا ل يت

) (1 جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص 41؛ الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص 52 . ) (2 جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص 41- 42؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص115؛ الشارتري: اتريخ احلملة إىل القدس، ص 48 49- . )3( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 249/1 . ) (4 جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص 41- 42؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص114 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 352 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

عقدت بني بيزنطة وقادة احلملة الصليبية األوىل، فتدهورت السلطنة وانكفأت إىل املناطق الداخلية من آسيا الصغرى )1(. بعد هذا النصر كان اهلدف الرئيس التايل هو الوصول إىل بالد الشام، ويف سبيل حتقيقه اتبعت القوات الصليبية زحفها من إقليم بيثينيا صوب اجلنوب الشرقي قاصدة إقليم بيسيداي وحاضرته أنطاكية الصغرى)يلفاك احلالية(، واجتازوا يف الطريق إليها منطقة جافة، وقاسى الصليبيون من التعب واجلوع، وازدادت معاانهتم من قيظ الصيف وشدة حرارته، فهلك الكثريين منهم )2(، اتبعت القوات الصليبية تقدمها، وخيموا يف منقطة خصبة كثرية اخلريات قرب أنطاكية الصغرى، حيث انقسم اجليش الصلييب مرة أخرى إىل قسمني: قسم حتت قيادة اتنكرد وبلدوين أخي غودفري وزحفوا جتاه قونية، وقسم بقيادة بومهيند ورميوند الصنجيلي وهؤالء زحفوا بسرعة إىل أنطاكية الصغرى، هبدف االستطالع وتقصي املعلومات عن سالجقة الروم )3(، اجتازت اجليوش الصليبية يف طريق تقدمها إقليم بسيداي، ووصلوا إىل قونية عاصمة إقليم انكوليا يف منتصف أغسطس )آب( 1097م /491ه، فوجدوها مهج و ر ة متا ما ً من السكان )4(، وكانت عيون قلج أرسالن قد وافته

)1( كومنينا: أل كسياد، ص402، -432 434 . ) (2 جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص 43؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص115 116- . ) (3 ألربت آخن: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، 51/ 46 . )4( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/253؛ عن مدينة قونية ينظر: موسرتاس: املعجم اجلغرايف، ص412 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 353 العدد الستون رجب 1442 هـ

أب خب ا ر ز ح ف ا ل صل ي ب ي ني ق ب ل و ص و هلا ب وق ت كا ف فعمد لتطبيق سياسة األرض احملروقة حلرمان الصليبيني من موارد املنطقة )1(، فهجر السكان للجبال اجملاورة للتحصن هبا، ونقلوا معهم قطعان املواشي ومجيع ممتلكاهتم وأحرق كل ما ميكن أن يفيدوا منه، فعاىن الصلي بيني ن ق صا ً كب رياً يف ا ل ط عا م ، أ ي د ذل ك وليم الصوري، بقوله: "متحورت آماهلم على إمكانية اسراع املسيحيني بعبور بلدهم بعدما تكون ندرة الطعام قد اهنكته وحتقق أملهم هذا، فقد فر الصليبيني من البلد القاحل الذي مل يقدم أي نوع من أ ن وا ع ا ل ط عا م ، و ز ح ف وا ق د ما ً إ ىل اإلمام بكل سرعة ممكنة" )2(، وبفضل نصيحة األر من املقيمني جبوار قونية للصليبيني، محلوا معهم من املاء ما يكفيهم حىت يصلوا إىل وادي هرقلة اخلصيب )3(، وعند مدينة هرقلة التقت القوات الصليبية اثنية بقوات األمري الدانشمند واألمري حسن، ودارت معركة عنيفة بني اجلانبني انتهت ابنسحاب الرتك حنو الشمال )4(، وأقامت القوات الصليبية يف املدينة أربعة أايم 10 13- سبتمرب )5(. ومن هرقلة تقدموا إىل قيصرية مركز الدانشمنديني، مث إىل مرعش،

)1( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 1/253؛ ويندوفر: ورود التاريخ، 39/ 39 . )2( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 253/1 . ) (3 جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص 44؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص116 . )4( كومنينا: أل كسياد، ص424؛ جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص 44؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص116. )5( جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص 44؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ص116.

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 354 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

وميزة هذا الطريق توفر الدعم للصليبيني من جانب األرمن )1(، وقد استوطن )2( األرمن املناطق املمتدة من قليقيا حىت شرقي الفرات ، وأ خ رياً و صل ت القوات الصليبية إىل مرعش وغالبية سكاهنا من املسيحيني األرمن، فتعاونوا مع الصليبيني وآتمروا معهم على احلامية الرتكية املدافعة عن املدينة )3(. عوامل اإلخفاق واهلزمية: إذا حبثنا يف األسباب اليت أدت إىل اهلزمية اليت حلقت ابلسلطان أمام نيقية وغريها. فإننا جنانب الصواب إن أوقعنا اللوم على السلطان قلج أرسالن ونسبنا إليه وحده أسباب اهلزمية، وأنه قصر ومل يقاوم الصليبيني مقاومة فعالة. من واألمهية مبكان أن نشري أبن جمموعة من العوامل ت ضا ف ر ت م عا ً وقادت إىل هذه النتيجة. ويف رأيي فإن تصدع وحدة السلطنة السلجوقية نتيجة اخلالفات األسرية داخل البيت السلجوقي وتفرق كلمتهم، كان السبب األساسي بدون شك يف اهلزمية اليت حلقت بقلج أرسالن. فحني ترك سالجقة العراق وفارس والشام قلج أ ر س ال ن ي وا ج ه جي و ش ا حل مل ة ا ل صل ي ب ي ة وا ل ق وا ت ا ل ب ي زن طي ة و حي داً ب ل غ وا ح داً من ضيق األفق جعلتهم ال يقدرون خطورة التحدي الذي يواجهه، ولعل امتناعهم عن تقدمي املساعدة لسالجقة الروم يف حمنتهم بفعل اخلالفات اليت

) (1 جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص -45 48 . )2( ماير: اتريخ احلروب الصليبية، ص 68. ) (3 جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص 48 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 355 العدد الستون رجب 1442 هـ

ازدادت بعد مقتل سليمان بن قتلمش مؤسس السلطنة السلجوقية على يد تتش بن ألب أرسالن عند حلب )1(، تقيم الدليل على أن أبناء ملكشاه وتتش مل يتعاونوا مع أبناء سليمان بن قتلمش إلقامة جبهة موحدة للتصدي للخطر الصلييب. وأحسب أنه لو صحت نياهتم واحتدوا فيما بينهم وأمدوا سالجقة الروم ابجليوش ألمكن هزمية الصليبيني قبل أن جيتازوا بالدهم إىل داير املسلمني )2( ، ل ك ن شي ئ ا ً من ذلك مل حيصل، وإمنا آثروا الوقوف موقف املتفرج، فكان ذلك العامل الرئيس يف اهلزمية. كذلك كان التفوق العددي اهلائل للجيوش الصليبية والبيزنطية، من أهم أسباب اهلزمية وأييت من حيث األمهية يف املرتبة الثانية بعد تفكك السلطنة السلجوقية. فقد كان اجليش الصلييب قوة عسكرية ضخمة من شعوب غرب أورواب، يصعب حصرها كما أخرب بذلك صاحب اجلستا )Gesta(، "أنين ال أ ظ ن أ ن أ ح داً رأ ى م ن ق ب ل أ و س ري ى م ن ب ع د مث ل ه ذ ه ا ل كث ر ة م ن الفرسان" )3(، والواقع أنه مل يكن مبقدور هذه اجليوش أن حتقق انتصاراهتا هبذه السهولة، لوال ظروف املشرق اإلسالمي املواتية اليت مكنتها من .ذلك وخيلص املؤرخ مسيل )Smile( إىل القول أبن هذه القوات متيزت ابلضعف وقلة

)1( كومنينا: أل كسياد، ص254؛ السرايين: اتريخ ميخائيل، 3/ 153؛ ابن العربي: اتريخ الزمان، ص119 . )2( يوسف، إرشيد: سالجقة الشام واجلزيرة يف الفرتة ما بني 435- 570هـ، عمان، 1988، ص111 . ) (3 جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص -35 36 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 356 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

الكفاءة العسكرية، وانعدام القيادة العسكرية املوحدة اليت يدين هلا اجلميع ابل طا ع ة ، كا ن ت جي و شا ً إ ق طا عية مشتتة، تفتقر للنظام والرتتيب وحسن اإلعداد واإلملام الكايف ابلتكتيكات العسكرية الصحيحة )1(. ومن املهم أن نشري يف هذا اجملال إىل دور احلليف البيزنطي والدعم اللوجسيت اهلائل الذي قدمه اإلمرباطور رغبة منه يف االستفادة منهم لتحقيق األمل الذي ظل يراوده ابستعادة أمالك بيزنطية اليت سيطر عليها سالجقة الروم. ويف حبثنا عن أسباب اهلزمية، جند أن هناك أخطاء وقع هبا السلطان، ال تقل يف أمهيتها عن األسباب السابقة. منها تشجيع الدبلوماسية البيزنطية أذكاءانر اخلالفات بني احلكام األتراك يف أسيا الصغرى لشق صفوفهم وأضعافهم ليتسىن هلا حتقيق هدفها ابستعادة األراضي اليت فتحوها إىل حظرية اإلمرباطورية. وميكن القول أن قلج أرسالن مل ينجح يف التصدي لبيزنطة يف السياسة مثلما جنح يف احلرب، ولعل حادثة مقتل أمري أزمري على يد قلج أرسالن بفعل تلك الدسائس)2(، تدلل على قصر ابعه يف السياسة، فقد أساء تقدير األمهية السياسية والعسكرية إلمارة أزمري يف مواجهة بيزنطة، وترتب على هذه اخلطوة نتائج ابلغة األمهية ابلنسبة للسلطنة ولعله أدرك مغبة عمله واحتياجه ألمري أزمري حني عربت اجليوش الصليبية البيزنطية إىل آسيا

) (1 مسيل، ر.سي: احلروب الصليبية، ترمجة: سامي هاشم، ط 1، بريوت، املؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1962، ص96 . )2( كومنينا: أل كسياد، ص351 353-.

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 357 العدد الستون رجب 1442 هـ

الصغرى، إذ ف ق د حل ي فا ً ا س رتا ت ي جي ا ً كا ن مي ك ن أ ن ي رك ن إ ىل م سا ع دت ه ابل ن ظ ر خلربته الطويلة يف الصراع مع بيزنطة ولو قدر له اإلبقاء على هذا احلليف، ألعانه أبسطوله الكبري يف اعرتاض السفن البيزنطية اليت نقلت اجليوش الصليبية من الرب األوروب إىل الرب األسيوي، ولقطع إمدادات التموين واألسلحة عن الصليبيني. وألمثر ذلك عن نتائج ابلغة اخلطورة على جمرايت احلروب الصليبية. ومثة قضية أخرى يف هذا اجملال تدلل أبن قلج أ ر س ال ن مل ي ك ن سي ا سي ا ً ب عي د ا ل ن ظ ر ، و دب ل و ما سي ا ً ح صي فا ً ، إ ذ مل ي ب ا د ر ل ت ف كي ك ا ل ت حا ل ف ا ل صل ي يب البيزنطي الذي تشكل ضده، وبدون ذلك ال يتحقق النصر وال يزول اخلطر. والصلة بني أقطاب التحالف ال تغري بدوام الثقة والتعاون. وكان قلج يعرف هذا التصدع يف صفوف احللفاء، لكنه مل جيتهد يف إبرازه وتوسيع شقته ويستغله ملصلحته، وكان بني يديه من أوراق الضغط ما يعينه على بلوغ مراده. فقد كان اإلمرباطور خيشى من اجليوش الصليبية ا جل را ر ة ا ل يت متث ل خ ط راً ح قي قي ا ً عل ى ب ي زن ط ة ، و يف ه ذا ا ل سي ا ق تؤكد أبنته كومنينا أنه كان من بني قادة احلملة من مينون أنفسهم من قدمي الزمان ابالستيالء على اإلمرباطورية خاصة )1( عدوه اللدود بومهيند ، وهي بذلك ت ش ري للعداء املتجذر بني بومهيند واإلمرباطور وما سببه لوالدها من متاعب يف البلقان وإيطاليا، وقلج أرسالن م طل ع عل ى ذل ك ف ق د كا ن ول ي ا ً لعهد والده سليمان حني اندلعت تلك

)1( كومنينا: أل كسياد، ص392 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 358 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

احلرب. وكان مبقدوره استثمار ذلك إبذكاء الفتنة وإاثرة النزاع والتخاصم بني بومهيند واإلمرباطور لفصم عرى التحالف بينهما. كذلك فإنه حني علم بوصول احلشود الصليبية إىل ضواحي القسطنطينية وتصميمهم على اجتياح بالده مل يقم إبرسال الرسل إىل اإلمرباطور لتذكريه ابتفاقية الصلح املعقودة بينهما سنة 488هـ/ 1095م )1(، وخيوفه من مغبة نقض الصلح وما سيلحقه ذلكمنضرر مبصاحل اإلمرباطورية. كما مل يبادر ابالتصال بقادة احلملة وختويفهم من نوااي اإلمرباطور العدوانية جتاههم. وال ريب أن ورقة الصراع املذهيب ا ل ذ ي كا ن حمت د ما ً عل ى أ ش د ه ب ني الكنيسة الشرقية والغربية، كانت ستثمر يف أتجيج انر الصراع بينهم، وهي كفيلة بتشتيت مشلهم واضعافهم ل ت ح قي ق غا ي ت ه مبن ع ه م م ن ا ل عب و ر إ ىل ب ال د ه ، ل ك ن شي ئ ا ً م ن ذل ك مل حي ص ل . ويبدو أنه أساء تقدير املوقف السياسي والعسكري بني بيزنطة وقادة احلملة، وظن أن تلك اخلالفات مستحكمة ال حل هلا، وأن بيزنطة لن تسمح هلم ابلعبور إىل بالده، ولو استثمر ورقة اخلالفات لتغري جمرى احلملة، إذ أن جناح ا حل مل ة كا ن م ر ه و انً مب وق ف ب ي زن ط ة و د ع م ها هل م ، وبدون ذلك الدعم لن تنجز هدفها. ومثة مسألة أخرى يف هذا اجملال، تستوقف النظر وهي استعانة قلج أرسالن بقبائل الكومان والبشناق الرتكية يف البلقان والدانوب ملوافاته ابلتحركات الصليبية صوب بالده، لكن ليس لدينا يف املصادر املعاصرة ما

)1( كومنينا: أل كسياد، ص353 .

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 359 العدد الستون رجب 1442 هـ

يشري حملاولته ا ل ت ن سي ق م ع ه ذ ه ا ل قب ا ئ ل ع س ك ر ايً ض د ا ل ق وا ت ا ل صل ي ب ي ة ا ل يت اخرتقت البلقان وحماولة اعرتاض تقدمهم، كما أنه مل ينسق معهم كذلك ضد بيزنطة مثلما فعل أمري أزمري حني حتالف مع البشناق للقيام بعملية عسكرية مشرتكة ضد بيزنطة )1(، ومل يغب مثل هذا االحتمال عن اإلمرباطور فكان أشد ما خيشاه أن تباغته هذه القبائل وهتاجم اإلمرباطورية، لذلك حني عرض عليه رميوند الصنجيلي تويل قيادة احلملة الصليبية بنفسه، اعتذر خمافة أن )2( يهاجم البشناق والكومان اإلمرباطورية ، وأ ح س ب أ ن ه ل و ن س ق ع س ك ر ايً م ع ه ذ ه ا ل قب ا ئ ل و و ج ه ه م ل ش ن ا ل غا را ت س وا ءً عل ى ا ل ق وا ت ا ل صل ي ب ي ة أ م عل ى بيزنطة ألربك خمططاهتم، و أوقع هبم خسائر كبرية. ومثة مسألة أخرى جتدر اإلشارة إليها هنا، وهي أن املصادر التارخيية املعاصرة مل تشر ألية حماولة من جانب السلطان العرتاض تقدم القوات ا ل صل ي ب ي ة س وا ءً أ كا ن ت ق وا ت ا حل مل ة ا ل عا م ة أ م ا حل مل ة ا ل ن ظا مي ة ، وي ب د و أ ن ق ل ج أرسالن الذي وصف ابلشجاعة والفطنة )3(، افتقر لليقظة عة وسر احلركة، لرتكه الفرصة للقوات الصليبية التجمع واالستعداد ملهامجته، فكان عليه حني عربوا البسفور أن يفاجئهم قبل أن يكملوا استعداداهتم وتتكامل حشودهم وأن يرهقهم ابهلجمات اخلاطفة إليقاع أكرب قدر من اخلسائر يف صفوفهم، فيشتت مشلهم ويلقي الرعب يف قلوهبم، فاهلجوم يف مثل هذه األحوال أقوى

)1( لالستزادة ي نظر: كومنينا: ألكسياد ، ص277 328- . )2( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، -223/1 224 . )3( الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 230/1 .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 360 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

وسائل الدفاع، وحتطيم قوة اخلصم قبل أن تكتمل أفضل من تركها تتجمع مث الصمود هلا. وأ خ رياً ، ف إ ن ا إلب قا ء عل ى ا ل كي ا ان ت ا مل سي حي ة األرمنية متقلبة الوالء يف جنوب األانضول كان من األخطاء الفادحة اليت وقعت فيها اإلمارات الرتكية يف األانضول عامة وسلطنة سالجقة الروم خاصة. وأحسب أن القوى األرمينية املبعثرة مل يكن لديها القدرة جملاهبة سالجقة الروم، وكان على قلج أن يوجه نشاطه شطر تلك اإلمارات لتعزيز مكانته السياسية والدينية يف املنطقة بتصفيته لتك اإلمارات جنوب األانضول، األمر الذي يكسبه مسعة جهادية، فيحظى بدعم وأتييد القوى السياسية اإلسالمية يف املشرق ا إل س ال م ي ، ب د الً من االنصراف لتوطيد نفوذه يف الشرق واخضاعه لإلمارات اإلسالمية املستقلة يف تلك املناطق، وتوسيع نفوذه يف أعايل اجلزيرة الفراتية والشام. وقد كشفت املصادر الصليبية املعاصرة للحملة األوىل عن الدعم الالحمدود الذي قدمته هذه اإلمارات للجيوش الصليبية، فقد ساندوا )1( الصليبيني مبا قدموه هل م م ن م ؤ ن وعتاد وإرشاد ، ومل يكن مبقدور القوات الصليبية أن تتابع تقدمها إىل الشام بدون الدعم الكبري الذي قدموه هلم.

***

)1( لالستزادة ي نظر: جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ص 44- 48؛ توديبود: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس ، ص116- 118؛ الصوري: اتريخ احلروب الصليبية، 253/1 – .255

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 361 العدد الستون رجب 1442 هـ

اخلامتة: استهدفت هذه الدراسة جتلية موقف السلطان قلج أرسالن من احلملة الصليبية األوىل، من خالل ما قدمته املصادر اإلسالمية واألجنبية من معلومات ساعدت على إبراز وتوضيح ذلك املوقف، وأمكن من خالل الدراسة التوصل لعدد من النتائج نربزها على النحو التايل: - تبني من خالل الدراسة أن فرتة حكم قلج أرسالن )487 – 500هـ/1094- 1106م(، مثلت مرحلة انتقالية يف اتريخ سلطنة سالجقة الروم، إذ انتقلت من مرحلة الضعف والتفكك إىل مرحلة االنتعاش واالزدهار السياسي واالقتصادي، وفيما يتعلق ابلعالقات بني السلطنة وبيزنطة فإن أهم ما مييزها تصديه حملاوالهتا ال رامية إىل استعادة األقاليم اليت فتحها سالجقة الروم، ومنعها من توطيد نفوذها على الشواطئ الشرقية لبحر مرمرة. - ظهر م ن خ ال ل ا ل د را س ة أ ن ق ل ج أ ر س ال ن كا ن من ه م كا ً يف إ خ ضا ع اإلمارات الرتكية يف األانضول لنفوذه عندما منا إىل علمه أنباء زحف القوات ا ل صل ي ب ي ة . وب ن ا ءً عل ى ه ذ ه ا مل عل و ما ت أ م ر ق وا ت ه ب رف ع ا حل صا ر ع ن م دي ن ة مل طي ة 488هـ/ 1095م، والعودة إىل عاصمته حلماية بالده من اخلطر الصلييب الذي أطل برأسه من الغرب األوروب. - أمكن من خالل رواية املؤرخ السرايين ابن العربي حتديد أتريخ حمدد للوقت الذي علم به قلج أرسالن أنباء زحف اجليوش الصليبية صوب بالده، بسنة 488هـ/ 1095 م.

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 362 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

- أزاحت الدراسة الستار عن اجلهات اليت أمدت السلطان قلج أرسالن مبعلومات دقيقة عن حتركات احلشود الصليبية الزاحفة صوب منها، ومنها اإلمرباطور البيزنطي، وجهاز استخباراته املثري لإلعجاب والذي وفر له معلومات يف غاية الدقة عن حتركات القوات الصليبية بنشره لشبكة من العيون واجلواسيس، واجتذابه لقبائل البشناق والكومان الرتكية يف البلقان ملوافاته بتحركات احلشود الصليبية. - سلطت الدراسة الضوء على اجلهود اليت بذهلا قلج أرسالن حلماية دولتهمن اخلطر الصلييب وقيامه ابلكثري من اإلعداد واالستعداد وحسن التخطيط ملالقاة العدو الصلييب. - أمكن من خالل ما قدمته املصادر السراينية والالتينية املعاصرة تفنيد مزاعم بعض املؤرخني األوروبيني املعاصرين فيما يتعلق ابنشغال السلطان قلج أرسالن مبنازعته أمراء الدانشمند السيادة على مدينة ملطية يف أرمينية الغربية حني عربت قوات احلملة الصليبية األوىل مضيق البسفور، واتضح أن هذه املزاعم ال صحة هلا وتتنايف مع الواقع التارخيي. وبينت املصادر التارخيية أن قلج أرسالن كا ن مت ح صن ا ً يف ا جلب ا ل ا جملا و ر ة ل ن ي قي ة من ت ظ راً ا ل ف ر ص ة ا مل وا ئ م ة ملهامجة القوات الصليبية إلنقاذ عاصمته من هذا اخلطر. - أ ح ر ز ق ل ج أ ر س ال ن ن ص راً م ؤ ز راً عل ى مج و ع ا حل مل ة ا ل صل ي ب ي ة ا ل ش عب ي ة ومتكن من إابدهتا وتشتيت مشلها. - أميط اللثام من خالل الدراسة عن عناصر اخلطة الدفاعية اليت رمسها قلج أرسالن حلماية عاصمته من ط السقوأبيدي القوات الصليبية. وبىن

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 363 العدد الستون رجب 1442 هـ

خطته الدفاعية على التحصن يف اجلبال احمليطة ابملدينة العرتاض زحف القوات الصليبية وقطع خطوط إمداداهتم إلجبارهم على رفع احلصار عن املدينة من جهة ومن جهة أخرى الدفاع عن عاصمته فيما عرف حبرب احلصون. وقد ب دا وا ض حا ً م ن ه ذ ه ا خل ط ة أ ن ا ل سل طا ن رأ ى ض ر و ر ة إهناك العدو وإضعاف قوته، مما ميكن أن ينتج عنه خسائر فادحة يف صفوف األعداء. - أمكن يف ضوء ما قدمته املصادر األجنبية املعاصرة تصوي ب بعض اآلراء، فيما يتعلق ابلعمليات القتالية اهلجومية اليت نفذها قلج أرسالن ضد القوات الصليبية البيزنطية احملاصرة لنيقية، وخبالف ما أشارت إليه العديد من الدراسات األوروبية املعاصرة اليت ترى أب ن ا ل سل طا ن مل ي ق م إ ال ب ش ن ه ج و م وا ح د على هذه احلشود وبعدها مل جيرؤ على التفكري هبجوم آخر. تبني أنه خاض ثالثة معارك شرسة ضد القوات ال صليبية، واسفرت املعركة الثالثة اليت استمرت لعدة أايم عن هزمية قلج هزمية كبرية. - تتبعت الدراسة العمليات القتالية اليت دارت حول نيقية، وانتهت إىل أن حامية املدينة استبسلت يف الدفاع عنها املدينة وفشلت كل اجلهود إلسقاطها عنوة وأ خ رياً أرغمت املدينة على االستسالم . - أابنت الدراسة عما بذله قلج أرسالن من جهد لتعويض خسارته أمام نيقية من خالل حماولته التصدي للقوات الصليبية يف ضوروليوم لكنه فشل، وتكبد خسائر فادحة يف القوة البشرية بسبب تلك اهلزمية، فتدهورت سلطنة سالجقة الروم تبعا لذلك .

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 364 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

- تبني من خالل الدراسة أن هزمية قلج أرسالن أمام نيقية ويف ضوروليوم أقنعته بضرورة التحول من اسرتاتيجية املواجهة العسكرية إىل أسلوب جديد اعتمدسياسة األرض احملروقة حلرمان اجليوش الصليبية من موارد املناطق اليت مي ر و ن هبا أ م الً يف إضعاف ق د را هت م عل ى ا مل ض ي ق د ما ً يف م ش ر و ع ه م ، ا أل م ر ا ل ذ ي ترتب عليه تكبدهم خسائر فادحة يف القوات البشرية أثناء عبورهم آسيا الصغرى. - خلصت الدراسة إىل تشخيص العوامل اليت أد ت إىل هزمية قلج أرسالن، فكان تفكك السلطنة السلجوقية ووقوفها موقف املتفرج السبب األساسي يف اهلزمية، ف ض الً عن التفوق العددي اهلائل للجيوش الصليبية والبيزنطية على قوات السالجقة.

* * *

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 365 العدد الستون رجب 1442 هـ

املصادر واملراجع العربية: - ابن األثري، أبو احلسن علي بن أب الكرم حممد الشيباين )ت630هـ(: الكامل يف التاريخ، مراجعة: حممد يوسف الدقاق، بريوت، دار الكتب العلمية، 1995م . - ابن خلكان، مشس الدين امحد)ت681ه(: وفيات األعيان وأنباء أبناء الزمان، حتقيق: احسان عباس، بريوت، دار صادر،1977 . - خواندمري، حممد بن خاوندشاه )ت 903هـ(: روضة الصفا يف سرية األنبياء وامللوك واخللفاء، ترمجة: أمحد عبدالقادر الشاذيل، ط1، القاهرة، الدار املصرية لل كتاب، 1988 م. - الذهيب، مشس الدين حممد)ت748ه(: سري أعالم النبالء، حتقيق: شعيب األرنؤوط، حممد العرقسوسي،ط11، بريوت، مؤسسة الرسالة،1996. - سبط بن اجلوزي، يوسف بن قز أوغلي الرتكي )ت 654هـ(: مرآة الزمان يف اتريخ األعيان حوادث )497 – 517هـ(، حتقيق: مسفر الغامدي، ط1، مكة املكرمة، جامعة أم القرى، 1987 م. - العظيمي، حممد بن علي احلليب )ت 556هـ(: اتريخ حلب، حتقيق: إبراهيم زعرور، دمشق، د.ت، 1984 م. - ابن القالنسي، أبو يعلى محزة بن أسد التميمي )ت 555هـ(: اتريخ أب يعلى محزة ابن القالنسي املعروف بذيل اتريخ دمشق، حتقيق: آمدروز، ا ة،لقاهر مكتبة املتنيب، د.ت. - أرشيد يوسف : سالجقة الشام واجلزيرة يف الفرتة ما بني 435- 570هـ، عمان، . 1988 - سعيد عبدالفتاح عاشور: احلركة الصليبية، ط6، القاهرة، مكتبة األجنلو املصرية، 1996 م. - طقوش، حممد سهيل: اتريخ سالجقة الروم يف آسيا ،الصغرى بريوت، دار النفائس،2002 . - الدويكات، فؤاد عبد الرحيم: العالقات العسكرية بني سلطنة سالجقة الروم واإلمرباطورية البيزنطية، حبث منشور يف اجمللة العربية للعلوم االنسانية، سنة2020،جملد:38، عدد:150. - عصام مصطفى عقلة: املرآة والسلطة يف اإلسالم اخلواتني السلجوقيات أمنوذجا ً،

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 366 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات

حبث منشور يف جملة دراسات العلوم اإلنسانية واالجتماعية، اجلامعة األردنية، سنة 2007م، جملد: 34 . - عصام مصطفى عقلة: الناوكية يف بالد الشام دراسة يف التسمية واألصل والعالقة ابلغز العراقية وابلدولة السلجوقية،حبث منشور يف اجمللة األردنية للتاريخ واآلاثر، سنة 2012م، جملد: 6، العدد: 2 . - حممد أمحد رمضان: حول وسائل الصراع املسلح اإلسالمي الصلييب يف العصور الوسطى، حبث منشور يف جملة املستقبل العرب، سنة 1987م، جملد: 10، العدد: .102 - حممد مرسي الشيخ: محلة بطرس الناسك الصليبية يف ضوء كتاابت أ ان كومنينا، حبث منشور يف جملة كلية العلوم االجتماعية- جامعة اإلمام حممد بن سعود، سنة 1978، العدد:2 . - املصادر اإلجنليزية: - أجيل، رميوند: اتريخ الفرجنة غزاة بيت املقدس، ترمجة: حسني عطية، ط1، اإلسكندرية، دار املعرفة اجلامعية، 1989 م. - آخن، ألربت فون: اتريخ احلملة الصليبية األوىل، ترمجة: سهيل زكار، ط1، دمشق: املوسوعة الشاملة يف اتريخ احلروب الصليبية، 2007 م. - توديبود، بطرس: اتريخ الرحلة إىل بيت املقدس، ترمجة: حسني عطية، ط1، اإلسكندرية، دار املعرفة اجلامعية، 1998 م. - الرهاوي، مىت )ت 539 هـ(: اتريخ مىت الرهاوي، ترمجة: حممود الرويضي، عبدالرحيم مصطفى، ط1، أربد، مؤسسة محادة للدراسات اجلامعية، 2009 م. - السرايين، مار ميخائيل )ت 596هـ(: اتريخ مار ميخائيل السرايين الكبري، ترمجة: غريغوريوس مشعون، ط1، حلب، دار ماردين، 1996 م. - الشارتري، فوشيه: اتريخ احلملة إىل القدس )1095-1127م(، ترمجة: زايد العسلي، ط1، عمان: دار الشروق، 1990 م. - الصوري، وليم: اتريخ احلروب الصليبية: األعمال املنجزة فيما وراء البحار، ترمجة: سهيل زكار، ط1، دمشق، دار الفكر للطباعة والنشر، 1990 م. - ابن العربي، أبو الفرج غريغوريوس بن أهرون امللطي )ت 685هـ(: اتريخ الزمان: ترمجة اسحق أرملة، ط2، بريوت، دار املشرق، 1986م.

جملة العلوم اإلنسانية و االجتماعية 367 العدد الستون رجب 1442 هـ

- ڤيتايل، أوردريك: التاريخ الكنسي، ترمجة: سهيل زكار، ط1، دمشق، دار التكوين للطباعة، 2008 م. - ويندوفر، روجر: ورود التاريخ، ترمجة: سهيل زكار، ط1، دمشق، املوسوعة الشاملة للحروب الصليبية، 2000م. - جمهول: أعمال الفرجنة وحجاج بيت املقدس، ترمجة: حسن حبشي، ط1، ال قاهرة، دار الفكر العرب، 1958 م. - جمهول: اتريخ الرهاوي اجملهول، ترمجة: البري أبوان، ط1، بغداد، مطبعة شفيق، 1986م. - كومنينا، أان )ت 548هـ(: أل كسياد، ترمجة: حسن حبشي، ط1، القاهرة، اجمللس األعلى للثقافة، 2004 م. - ابرتولد: اتريخ الرتك يف آسيا الوسطى، ترمجة: أمحد السعيد سليمان، القاهرة، اهليئة املصرية العامة للكتاب، 1996م. - ر.سي. مسيل: احلروب الصليبية، ترمجة: سامي هاشم، ط1، بريوت، املؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1962 . - ستيڤن رنسيمان: اتريخ احلروب الصليبية، ترمجة: السيد الباز العريين، بريوت، دار الثقافة، 1997 م. - عثمان توران: األانضول يف عهد السالجقة واإلمارات الرتكمانية، ترمجة: علي حممد الغامدي، ط1، مكة املكرمة، جامعة أم القرى، 1997 م. - لسرتانج: بلدان اخلالفة الشرقية، ترمجة: كوركيس عواد، بريوت، مؤسسة الرسالة،1985 . - موسرتاس، س: املعجم اجلغرايف لإلمرباطورية العثمانية، ترمجة: عصام الشحادات، بريوت، دار ابن حزم،2002 . - ميخائيل زابوروف: الصليبيون يف الشرق، ترمجة: الياس شاهني، ط1، موسكو، دار التقدم، 1986 م. - هانـــز ماير: اتريخ احلروب الصليبية، ترمجة: عماد غامن، ط1، طرابلس الغرب، جممع الفاتح للجامعات، 1990م. - أنتوين بردج: اتريخ احلروب الصليبية، ترمجة: أمحد غسان سبانو، ط1، دمشق، دار قتيبة للنشر والتوزيع، 1985 م.

موقف السلطان قلج أرسالن األول من احلملة الصليبية األوىل دراسة يف عالقة سلطنة سالجقة الروم 368 ابحلملة األوىل 487 – 500هـ/ 1094 – 1107 م أ.د. فؤاد عبد الرحيم الدويكات