<<

International Journal of Language Academy ISSN:2342-0251 DOI Number: http://dx.doi.org/10.18033/ijla.4162 ArticleHistory: Research Article Received 04/05/2019 Received in revised form Volume 7/2 June 2019 04/05/2019 p. 365/382 Accepted 29/06/2019

Available online THE ANCIENT AND MODERN POSITION 30/06/2019

BETWEEN AL-JAHEZ AND IBN QUTAYBA

Kawther Mahmoud Ali Obaid1

Abstract Disputing between Ancient and modern is a critical issue that distracted the critics for long time, the more this issue is raised, the more the conflict begins to intensify also, the opinions varies and scholars differ in their opinions due to the development of the Arab civilization. This issue produced three categories: The first category is supporters “Ancient” who they glorify the pre-Islamic poetry and consider it the origin that should not be alienated. The second category is supporters “Modern” who they saw that it was time to move towards renewal, and make radical changes affecting the change of style of the poem, and then depart from the authority of the Ancient, which has been in the structure for decades, which contributed to the emergence of what known is as Bdi’ poets; such as Bashar ibn Burd and . The third category is between “Ancient” and “Modern”, this category seeks to arbitrate the objective view of poetry to consider that the quality and poor are the correct measure of poems away from era and time. This study is intended to elucidate the views of the critics "Al-Jahiz (255 AH) and Ibn Qutayba (267 AH)" and provide an integrated image in the field of literary criticism, the importance comes from discovering new critical issues in our ancient critical heritage that is worthy of attention to meet with modern criticism concepts. We have relied on our explanations and analysis of various critical statements and opinions on the descriptive analytical approach. The study showed the position of both the critics "Al-Jahiz and Ibn Qutayba", who were not bigot to “Ancient” and they were not countenancer to “Modern” only it’s modern, but they judged the objective view, control quality and poor, the dexterity in the skill, and proficiency in the discipline. Al-Jahiz has applied his theory of concepts that have turned many of the prevailing concepts in Ancient Arabic criticism, also Ibn Qutayba walked on Al-Jahiz’s path. Their views were the basic building blocks from which the creator of renewal and innovation, and work to create a bridge between “ancient and modern” to push the process of creativity, “ancient” must be accommodated to represent “modern”, Al-Jahiz believed when he said: "If you heard the man say what the first left thing to the other, then know that what he wants to succeed." These views were widely echoed in modern criticism, as says:” "We are forced to connect “ancient” and “modern” because every ancient was modern in its time, every “modern” will become “ancient” ”. Keywords: Al-Jahiz Ibn Qutaiba - ancient - modernism - intolerance - moderation – renewal.

1 Assistant Professor Dr. at King Khalid University. Faculty of Science and Arts - Department of Arabic Language - Khamis Mushait

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382

366 Kawther Mahmoud Ali Obaid

املوقف من القدمي واحلديث بني اجلاحظ وابن قتيبة

إعداد/ د.كوثر عبيد

أستاذ مساعد يف جامعة امللك خالد

كلية العلوم واآلداب/قسم اللغة العربية /مخيس مشيط

مقدم إىل مؤمتر بايرب الثاين – تركيا

املنعقد يف شهر مارس-2019م

املوقف من القدمي واحلديث بني اجلاحظ وابن قتيبة إعداد /د. كوثر حممود علي عبيد/أستاذ مساعد يف جامعة امللك خالد كلية العلوم واآلداب /قسم اللغة العربية /مخيس مشيط ملخص البحث: القدمي واحلديث مصطلحان نقديان من مصطلحات القرن الثاين اهلجري، اشتغل هبما كثري من علماء العربية وأدبائها، ودار حوهلما جدال فكري ونقدي شديد وصل إىل حد الصراع بني أنصارمها واملعارضني هلما، فالقدمي الذي يتحدثون حوله هو الشعر اجلاهلي وشعر صدر اإلسالم منتهياً يف أوائل القرن الثاين اهلجري، أما الشعر احملدث فهو شعر ما عرف باملولدين الذين ثاروا 2 على منطية القصيدة اجلاهلية وصياغتها وبنيتها الفنية واليت تبدأ ببشار بن برد ومروان بن أيب حفصة وغريمها من خمضرمي الدولتني) (. وقد انقسم واة الروالعلماء والنقاد والشعراء ثالثة أقسام حيال هذه القضية احليوية اليت شغلتهم فرتة طويلة، فاللغويون الذين يعدّون أنفسهم سدنة الشعر القدمي وهم الذين أخذوا على عاتقهم مجع اللغة من فصحاء العرب الذين مل يؤثر فيهم روح احلضارة والتغري والتطور الذي أصاب احلضارة العربية، أصبح هذا اإلرث اللغوي واألديب جزءاً من كياهنم، فأخذوا يدافعون عنه، ويعدونه األساس الذي جيب أن يكون عليه الشعر، لذلك مل حيلفوا بشيء من شعر املولدين واحملدثني، ومل يعدوه من األشعار اليت يستشهد هبا، ألنه بعيد عن السليقة والذوق الذي عرفوه يف الشعر القدمي.

2 ) ( انظر: النقد المنهجي عند العرب، مندور، محمد، دار نهضة مصر الفجالة، القاهرة، ص23.

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382 THE ANCIENT AND MODERN POSITION BETWEEN AL-JAHEZ AND IBN QUTAYBA 367

وقسم ثا ٍن يؤثر احلديث اجلديد مع احرتامه للقدمي وعدم التنكر له متتبعاً روح العصر واحلضارة اجلديدة، فرأوا أنه ليس من الصواب التخندق خلف القدمي وااللتزام مببادئه وقواعده اليت قعدها اللغويون، سيما أن البيئة اليت أوجدت هذا الشعر مل تعد تلك البيئة، وأن تطورات عظيمة أصابت البيئة العربية حتتم على الشعراء مواكبة هذه التطورات والعمل مبقتضاها. أما القسم الثالث: فقد اجته إىل االعتدال والتوسط بني الطرفني املتخاصمني فلم يناصروا طرفا على آخر، فدافعوا عن القدمي واحلديث معاً، وجعلوا احلكم يف احلسن للشعر والشاعر، وليس للمكان والعصر والزمن، وكانت اجلودة الشعرية هي املعيار احلكمبني القدمي واجلديد، فقد انتصروا للمجيدين من الشعراء وشعرهم سواء كانوا متقدمني أم حمدثني، ودعوا إىل االلتزام باملوضوعية النقدية وترك الغلو والتعصب، والبعد عن احملاباة واهلوى يف إصدار األحكام للشعر أو عليه. وقد جاءت هذه الدراسة الستجالء آراء الناقدين "اجلاحظ)ت255هـ( وابن قتيبة )ت267هـ( " وأن نقدم صورة متكاملة يفجمالالنقد األديب القدمي ، وتأيت األمهية يف أهنا كشفت عن قضايا نقدية جديدة يف تراثنا النقدي القدمي جديرة باالهتمام اللتقائها مع مفاهيم نقدية حديثة. واعتمدنا يف شرحنا وحتليلينا ملختلف املقوالت واآلراء النقدية على املنهج الوصفي التحليلي. وقد بينت الدراسة موقف الناقدين "اجلاحظ وابن قتيبة "اللذين مل يتعصبا للقدمي ومل حيابيا حديثا جملرد أنه حديثا ،وإمنا حكموا النظرة املوضوعية ،واحتكموا إىل اجلودة والرداءة واحلذق يف الصنعة واإلجادة يف السبك، وقد أحدث اجلاحظ بتطبيق نظريته مفاهيم قلبت كثريا من املفاهيم السائدة يف النقد العريب القدمي، وقد سار على دربه "ابن قتيبة" ، وكانت آرائهما اللبنة األساسية اليت ينطلق منها املبدع إىل التجديد واالبتكار، والعمل عل إجياد جسرا للتواصل بني القدمي واحلديث لدفع عملية اإلبداع ، فال بد من استيعاب القدمي لتمثل اجلديد، ، وقد صدق اجلاحظ عندما قال:" إذا مسعت الرجل يقول ما ترك األول لألخر شيئا، فاعلم أنه ما يريد أن يفلح". وكان هلذه اآلراء صدى واسعا يف النقد احلديث ،كما يقول: طه حسني "حنن مضطرون لنصل بني القدمي واحلديث " ألن كل قدمي كان حديثا يف زمانه ، وكل حديث سيصري قدميا". كلمات مفتاحية: اجلاحظ –ابن قتيبة – القدمي-احملدث-التعصب –االعتدال-التجديد

تمهيد: من املتعارف عليه أن الشعر العريب يف العصر اجلاهلي قد بلغ قّمة اجلودة والنضج واالكتمال، نتيجة سلسلة طويلة من التطورات الفنية املتعاقبة ال نعرفها، وأن السمات العامة والقواعد اليت حكمت بنية هذا الشعر قد استقّرت وأخذت الوضع املثايل الذي مبوجبه خضع الشعراء له لينسجوا على منواله، وساروا عليه لفرتة طويلة استمرت حىت هناية القرن اهلجري األول، وهي الفرتة اليت اعتمدها اللغويون والنقاد لالستشهاد بالشعر العريب لتأصيل قواعده اللغوية والنحوية. وقد أصاب الشعر العريب خالل هذه الفرتة، خصوصاً يف العصر األموي نوع من التطور وبرزت أغراض جديدة نتيجة ملا أحدثه اإلسالم من زعزعة للنظام االجتماعي اجلاهلي.

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382

368 Kawther Mahmoud Ali Obaid

ورغم هذا التطور إال أن هندسة القصيدة ووسائل التصوير فيها بقيت على ما كانت عليه يف العصر اجلاهلي، فالتجديد الذي حصل يف العصر األموي يسري، وأثره يف شكل القصيدة وبنائها الفين حمدود، ولعل هذا يعود إىل أن العصر اإلسالمي امتداد طبيعي للعصر اجلاهلي فيما خيص اللغة اليت حافظت على نقائها وصفاهتا وقوهتا وجزالتها. أما القفزة النوعية الكبرية يف التطور الذي أصاب القصيدة العربية من الناحية الفنية، فقد ظهر يف العصر العباسي بعد انتقال عاصمة اخلالفة من دمشق إىل بغداد، والتطور الكبري الذي طرأ على البيئة العربية نتيجة انصهار خمتلف األعراق واحلضارات يف بيئة علمية مل يسبق هلا مثيل يف البيئة العربية، هذا االنصهار والتالقح الفكري هو الذي مّهد الطريق للتجديد يف القصيدة العربية ولغتها. والسؤال الذي يتبادر إىل الذهن، ما اجلديد أو احملدث الذي جاء به الشعراء احملدثون، هل هو شعر خمالف للشعر للعريب التقليدي من ناحية األغراض واملوضوعات واملعاين وطريقة النظم؟ أم أن املوضوعات واملعاين هي هي، إمنا ألبسوها ثوباً جديداً يتناغم مع التطور الكبري الذي رافق احلياة العريب يف القرن الثاين اهلجري. لقد سار الشعراء الذين محلوا راية التجديد ورأوا ضرورة مواكبة احلياة املتطورة على منوال القدماء يف موضوعات الشعر وآلياته، ولكنهم جددوا وابتكروا ضمن احلدود اليت رمسها القدماء للشعر، وهذا التجديد يشبه متاماً تغيري شيء بشيء دون املساس باألصل، فالقدماء عندما وقفوا على األطالل ا وناجوالديار واحلبيبة كان هذا من طبيعة البنية اليت كانوا يعيشوهنا، ملا اختلفت البيئة على الشعراء احملدثني مل يعد مناسباً أن يقفوا على أطالل غري موجودة، ومن هنا انصرف الشعراء عن هذه اإلطاللة إىل إطاللة مستوحاة من البيئة احلضرية واحلياة املرتفة اليت كانوا يعيشوهنا، وتعكس حياهتم يف بغداد والكوفة وعلى ضفاف دجلة والفرات. لقد نفذ الشعراء العباسيون إىل أسلوب جديد عرف باسم أسلوب املولدين، وهو أسلوب قام على عتاد من القدمي وعدة من الذوق احلضري اجلديد، أسلوب حيافظ على ماّدة اللغة ومقوماهتا التصريفية والنحوية، ويالئم بينها وبني حياة اجملتمع العباسي املتحضرة، حبيث تنفي عنه ألفاظ العامة املبتذلة، كما تنفي عنه ألفاظ البدو احلوشية، أسلوب وسط بني الغرابة واالبتذال ختتار منه 3 الكلمات كأمنا هي جواهر ختتار يف عقود) (. لقد حبث الشعراء عن اجلمال يف الشعر واملعاين، ومل جيدوا منوذجاً حيتذى به إالّ ما جاء به الشعراء أنفسهم، فالشعر القدمي ال خيلو من العبارات الرقيقة واالستعارات اجلميلة وضروب البديع األخرى، فكانت هذه العبارات واأللفاظ هي األساس الذي اعتمد عليه احملدثون يف جتويد عباراهتم وزخرفتها وتنميقها، ولكنهم ابتعدوا كثرياً يف ضروب ال خرفةز املختلفة، وصياغة املعاين املستوحاة من البيئة احلضرية احمليطة هبم، ومن هنا ظهرت لغة جديدة ختتلف طبيعتها عن لغة القدماء، وأصبح الشعر عند هؤالء احملدثني فناً وصنعة تطرب له اآلذان، وتلذ هلا األمساع، وتشغف هبا القلوب، ومن هنا انطلقت شرارة الصراع بني ما اصطلح عليه اسم القدمي واحملدث. الموقف من القديم والحديث: القدمي واحلديث مصطلحان نقديان من مصطلحات القرن الثاين اهلجري، اشتغل هبما كثري من علماء العربية وأدبائها، ودار حوهلما جدال فكري ونقدي شديد وصل إىل حد الصراع بني أنصارمها واملعارضني هلما، فالقدمي الذي يتحدثون حوله هو

3 ) ( انظر: العصر العباسي، شوقي، ضيف، ص96 وما بعدها.

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382 THE ANCIENT AND MODERN POSITION BETWEEN AL-JAHEZ AND IBN QUTAYBA 369

الشعر اجلاهلي وشعر صدر اإلسالم منتهياً يف أوائل القرن الثاين اهلجري، أما الشعر احملدث فهو شعر ما عرف باملولدين الذين ثاروا 4 على منطية القصيدة اجلاهلية وصياغتها وبنيتها الفنية واليت تبدأ ببشار بن برد ومروان بن أيب حفصة وغريمها من خمضرمي الدولتني) (. وقد انقسم الرواة والعلماء والنقاد والشعراء ثالثة أقسام حيال هذه القضية احليوية اليت شغلتهم فرتة طويلة، فاللغويون الذين يعدّون أنفسهم سدنة الشعر القدمي وهم الذين أخذوا على عاتقهم مجع اللغة من فصحاء العرب الذين مل يؤثر فيهم روح احلضارة والتغري والتطور الذي أصاب احلضارة العربية، أصبح هذا اإلرث اللغوي واألديب جزءاً من كياهنم، فأخذوا يدافعون عنه، ويعدونه األساس الذي جيب أن يكون عليه الشعر، لذلك مل حيلفوا بشيء من شعر املولدين واحملدثني، ومل يعدوه من األشعار اليت يستشهد هبا، ألنه بعيد عن السليقة والذوق الذي عرفوه يف الشعر القدمي. وقسم ثا ٍن يؤثر احلديث اجلديد مع احرتامه للقدمي وعدم التنكر له متتبعاً روح العصر واحلضارة اجلديدة، فرأوا أنه ليس من الصواب التخندق خلف القدمي وااللتزام مببادئه وقواعده اليت قعدها اللغويون، سيما أن البيئة اليت أوجدت هذا الشعر مل تعد تلك البيئة، وأن تطورات عظيمة أصابت البيئة العربية حتتم على الشعراء مواكبة هذه التطورات والعمل مبقتضاها. أما القسم الثالث: فقد اجته إىل االعتدال والتوسط بني الطرفني املتخاصمني فلم يناصروا طرفا على آخر، فدافعوا عن القدمي واحلديث معاً، وجعلوا احلكم يف احلسن للشعر والشاعر، وليس للمكان والعصر والزمن، وكانت اجلودة الشعرية هي املعيار احلكمبني القدمي واجلديد، فقد انتصروا للمجيدين من الشعراء وشعرهم سواء كانوا متقدمني أم حمدثني، ودعوا إىل االلتزام باملوضوعية النقدية وترك الغلو والتعصب، والبعد عن احملاباة واهلوى يف إصدار األحكام للشعر أو عليه. من مظاهر التعصب للقديم: يؤخذ على النقاد الذين تعصبوا للشعر القدمي أهنم أخلوا هذه القضية الكبرية على نطاق األساس التارخيي، فقد أعادوا القوة واجلزالة واجلمال إىل العصر الذي قيلت فيه هذه األشعار، ومل حيكموا على الشاعر أو املادة الشعرية، ألن إبعاد الشاعر وشعره، واالحتكام إىل العصر، فيه من تغلب الشهوة واهلوى النفسي، واحلسد ما يبعده عن جادة الصواب والوقوع يف التناقض، فالنقاد عندما عادوا إىل القدمي استخرجوا بعض األخطاء اللغوية اليت وقع هبا الشعراء، وكان اللغويون املتعصبون إىل القدمي يغضون النظر عنها، ويأخذون هبا، وينكرون على احملدثني الوقوع هبا، وما أدل على ذلك من قول اخلليل بن أمحد الفراهيدي: "أنشدين رجل:" ترافع العز )5( بنا فارفنقعا " فقلت له: ليس هذا شيئاً، فقال: كيف أجاز للعجاج أن يقول: تقاعس العز بنا فاقعنسسا وال جيوز يل" . ومن مظاهر التعصب للقدمي أن بعضهم ال يسمح لنفسه أو لغريه جمرد التفكري يف املوازنة والقياس بني القدمي واحلديث، فابن مناذر خياطب خلفاً األمحر أحد رموز القدمي: يا أبا حمرز: إن يكن النابغة وامرؤ القيس وزهري فهذه أشعارهم خملّدة، فقس شعري )6( إىل شعرهم، واحكم فيها باحلق، فغضب خلف وأخذ صحناً مملوءاً مرقاً ورمى به عليه" .

4 ) ( انظر: النقد المنهجي عند العرب، مندور، محمد، دار نهضة مصر الفجالة، القاهرة، ص23. 5 ) ( النظرية النقدية عندد العدرب ح ده نهايدة القدرا الرابد ، ددح، هندد حسديا، دار الرشديد، الجمهوريدة العراقيدة، 1981، ص212، عا رسائل االن قاد، ص326. 6 ) ( النظرية النقدية، دح، هند حسيا، ص214.

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382

370 Kawther Mahmoud Ali Obaid

إن األحكام اليت يصدر عنها املتعصبون للقدمي كثرياً ما جتانبها العلمية واملوضوعية، إذ تعتمد على التعصب املقيت املكشوف لكل ما هو قدمي جملرد قدمه، وهذا صرفهم عن احلاسة الفنية اليت متيل إىل اجليد من الشعر فتحكم له باجلمال واحلسن، وال تنظر إىل مكانة الشاعر وعصره، وقد نعى اجلرجاين على اولئك املتمسكني بالقدمي، املعادين لكل ما هو جديد "وما أكثر من ترى وتسمع منة حفاظ اللغة ومن جلة الرواة من يلهج بعيب املتأخرين فإن أحدهم ينشد البيت فيستحسنه ويستجيده ويعجب منه وخيتاره، فإذا نسب إىل بعض أهل عصره وشعراء زمانه كذب نفسه ونقض قوله، ورأى تلك الغضاضة أهون حممالً وأقل مرزأة من 7 تسليم فضيلة حملدث واإلقرار باإلحسان ملولد) (. ويضرب اجلرجاين منوذجاً من هذا التناقض ملن يستجيدون الشعر اجلديد وحيكمون جبودته ومجاله ويف الظاهر حيكمون عليه بالرداءة فريوي أن اسحق املوصلي أنشد األصمعي: هــــــــــــــــــــــــــل إلــــــــــــــــــــــــــى نظــــــــــــــــــــــــــرة إليــــــــــــــــــــــــــك ســــــــــــــــــــــــــبيل فيبـــــــــــــــــــــــــــل الـــــــــــــــــــــــــــصدى ويـــــــــــــــــــــــــــشفى الغليـــــــــــــــــــــــــــل

إن مـــــــــــــــــــــــــا قـــــــــــــــــــــــــل منـــــــــــــــــــــــــه يكـــــــــــــــــــــــــثر عنـــــــــــــــــــــــــدي وكثيــــــــــــــــــــــــــــــــــر ممـــــــــــــــــــــــــــــــــن تـحـــــــــــــــــــــــــــــــــب القليـــــــــــــــــــــــــــــــــل

فقال األصمعي: واهلل هذا الديباج اخلسرواين، ملن تنشدين. فقال املوصلي: إهنما لليلتهما، فقال: ال جرم واهلل إن أثر 8 التكلف فيهما ظاهر") (.

موقف الجاحظ من القديم والحدث: كان املوقف النقدي السائد قبل دخول اجلاحظ معرتكه مييل إىل إيثار القدمي وإجالله وتقديسه على حساب اجلديد احملدث، الذي ذهب أصحابه بعيداً عما أراده هؤالء العلماء والرواة والنقاد، فالقدماء " حبكم نعلقهم مبفهوم احملافظة على اللغة )9( وأصوهلا من عوامل التغيري، حيث عّدوا كل تغيري يطرأ على اللغة عامالً من عوامل فسادها" . هذه النظرة القاصرة، واملتحجرة اجتاه القدمي، رغم أهنا صادرة عن علماء اللغة والنحو ورواة األشعار، إال أهنا مل جتعل اجلاحظ يقع أسرياً هلا، ويأخذها على عالهتا، ويردد ما قاله هؤالء العلماء، ويغّرد يف السرب نفسه، بل هلذا الرجل نظرة مشولية عميقة فيما يدور حوله من التغيريات احلضارية والفكرية والبيئية والثقافية، اليت جبل عليها اجملتمع العباسي يف هذه الفرتة، وظهر فيها مثل هذا الصراع.

7 ) ( الوسددادة بدديا الم نبددي و صددومح، الجرجدداني، القاضددي ععددي بددا عبددد العميددم بددا الحسددا، دد : محمددد بددو الفضل ابراهيم، وععي محمد الجبراوي، البابي الحعبي، د2، 1951، ص50. 8 ) ( المرج السابق، الصفحة نفسها. 9 ) ( الجاحظ والنقد األدبي، نجم، وديعة دح، حوليات كعية اآلداب، جامعة الكويت، الحولية العاشرة، 1988، ص45-44.

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382 THE ANCIENT AND MODERN POSITION BETWEEN AL-JAHEZ AND IBN QUTAYBA 371

والواضح أن اجلاحظ مل يكن مقتنعاً بأذواق العلماء والنحويني الذين تعصبوا للقدمي على حساب احلديث، ألنه ينقصهم الشيء الكثري ليصبحوا من نقدة الشعر ومتييز جيدة من رديئة، وبالتايل فإن أحكامهم يشوهبا اخلطأ والبعد عن جادة الصواب عند إصدار هذه األحكام. يقول اجلاحظ ساخرا من قصور تفكريهم، يف الوقت الذي يشيد بالكتاب وميدحهم – وهو منهم – واحلاذقني من الشعراء " ومل أر غاية النحويني إال كل شعر فيه إعراب، ومل أر غاية رواة األشعار إال كل شعر فيه غريب، أو معىن صعب حيتاج إىل )10( إعراب، ومل أر غاية رواة األخبار إالّ كل شعر فيه الشاهد واملثل" . يف الوقت الذي يقلل فيه من قيمة أحكامهم على الشعر والشعراء، وعدم مصداقية هذه األحكام، ألنه يشيد بالكتاب أصحاب الثقافات املتعددة والعقول النرية، الذين ينظرون إىل الشعر حبيادية أكرب، ويصدرون أحكامهم بناءً على ما يف الشعر من حماسن،وما فيه من جودة "ورأيت عامتهم ال يقفون إال على األلفاظ املتخرية، واملعاين املنتخبة، وعلى األلفاظ العذبة واملخارج السهلة، والديباجية الكرمية، وعلى الطبع املتمكن، وعلى السبك اجليد وعلى كل كالم له ماء ورونق، وعلى املعاين الذي إذا صارت يف الصدور عمرهتا، وأصلحتها من الفساد القدمي، وفتحت للسان باب البالغة، ودلت األقالم على مدافن األلفاظ، وأشارت إىل 11 حسان املعاين، ورأيت البصر هبذا اجلوهر من الكالم يف رواة الكتاب أعم، وعلى ألسنة حذاق الشعر أظهر") (. مل يعترب اجلاحظ األدب اجلاهلي مثالُ جيب أن يكون ساملاً من كل عيب، كما أنه مل ير واجباً على الشاعر أن يصوغ على شاكلته ال حييد، ومل يرد اجلاحظ ذلك، ومل يأخذ به، فهو نفسه قد عاب على املولدين ذلك التكلف الذي يبغون من ورائه تقليد أهل البدو، وبأن املولد يضعف عن ذلك يف آخر شعره بعد أن تراه مستجمعاً قوته، قال: "ونقول أن الفرق بني املولد واإلعرايب 12 أن املولد يقول بنشاطه، ومجع باله األبيات الالحقات بأشعار أهل البدو، فإن أمعن احنلت قوته واضطرب كالمه") (. فاجلاحظ مع النقاد التوفيقني الذين وقفوا مع الشعر اجليد احلسن بصرف النظر عن العصر الذي قيل فيه، أو الشاعر الذي أنشأه، وكان له، وملن سار على هنجه الدور األكرب يف ختفيف حدة الصراع بني القدمي واجلديد، وتقصري مدته، فخفت هذا الصراع وتالشى مبوت دعاه القدمي واملتعصبني له، "فهو من النقاد الذين تكافأت لديهم صفتا القدم واحلداثة، وهداه ذوقه إىل اجليد 13 يفكل منهم، فال يتحيز ألحدمها على اآلخر، إال مبا تفرضه هي نفسه على األخرى") (. فهو بداية يعلن موقفه الصريح، وبكل ثقة وبدون تردد من الشعر القدمي والشعراء القدماء، هذا املوقف احلازم الذي ال يقبل الشك والطعن، بأن الشعراء القدامى هم يف صدارة شعراء العربية على اإلطالق وأشعرهم، ويبدو أنه ال جيعل جماالً للمقارنة بني شاعريتهم وشاعرية أهل األمصار البعيدة عن البادية، وهم وإن كانوا كذلك، فليس هذا حكماً مطلقاً على كل ما جاءت به قرائحهم وجادت، فكما أهنم أجادوا، وأحسنوا، وعربوا فأحسنوا التعبري بألفاظ قوية جزلة، وظهرت معانيهم كأحسن ما تكون، إال أن هذا ال

10 ) ( البياا وال بياا، الجاحظ، ج4، ص34. 11 ) ( البياا وال بياا، الجاحظ، ج4، ص34. 12 ) ( الحيواا، الجاحظ، ج3، ص132. 13 ) ( اريخ النقد األدبي عند العرب، عباس، إحساا، دار الشروق، عماا، 2006، ص47.

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382

372 Kawther Mahmoud Ali Obaid

مينعأن هناك هفوات وزالت وقعوا هبا، جعلت بعض ما قالوه ال يرقى إىل املستوى املأمول منهم، وعلى اجلانب اآلخر شعر حمدث ال يقل أمهية ومجاالً عنه، مبعىن أن هذا امليل واحلكم جب دة والشعر القدمي، ال يستوجب التحيز إىل القدمي، يقول يف ذلك: "والقضية اليت ال أحتشم منها، وال أهاب اخلصومة فيها، أن عاّمة العرب، واألعراب، والبدو واحلضر من سائر العرب، أشعر من عاّمة شعراء 14 األمصار، والقرى من املولدة والثابتة وليس ذلك بواجب هلم على كل ما قالوه) (. ويف موطن آخر يرى أن من كانت أشعارهم صادرة عن سليقة وطبع )القدماء( ومتكن من أنفسهم ومن أدواهتم الشعرية، ال ميكن أن يكونوا من حيث املقدرة واملوهبة، كمن وجد مناذج شعرية راقية أمامه )احملدثون( قرأها وعرف معناها، فأعانته على نسج قصائد مجيلة حسنة "فليس من قال الشعر بقرحيته وطبعه، واستغىن بنفسه، كمن احتاج إىل غريه، يطرد شعره، وحيتذي مثاله، وال يبلغ 15 معشاره") (. ويف موطن آخر يشيد جبمال الشعر العريب القدمي وجودته، ومبا ازدان به من الصفات الرفيعة، اليت تزينه، مما يعجز أشعر املولدين وأشباههم أن يأتوا جبودته وحالوته، يقول: "وحنن – أبقاك اهلل – إذا ادعينا للعرب أصناف البالغة من القصيد واألرجاز ومن املنثور واألسجاع، ومن املزدوج وما ال يزدوج، فمعنا العلم أن ذلك شاهد صادق من الديباجة الكرمية، والرونق العجيب، 16 والسبك والنحت الذي ال يستطيع أشعر الناس اليوم، وال أرفعهم يف البيان أن يقول مثل ذلك، إال يف اليسري والنبذ القليل") (. لقد انتصر اجلاحظ لألعراب القدماء، وأنصفهم عندما عرض للظروف القاسية اليت كانوا يعيشوهنا احلياة املرة اليت كانوا يتجرعون قساوهتا، وهم مع ذلك قد انتجوا هذا الرتاث الشعري العظيم، الذي انتزعوا مفرداته وألفاظه ومعانيه وصوره من تلك البيئة 17 القاسية، اليت مل جيدوا فيها النضارة واحلالوة اليت رآها احملدثون وعاشوها.) (. إنإشادة اجلاحظ بالقدمي من الشعر وأهله وإعجابه هبما ال يعين أنه احناز إليه، ووقف مبواجهة الشعر احملدث وأهله. لقد جترد اجلاحظ من العصبية جبميع صورها وأشكاهلا، عندما انتصر للجودة واجلمال يف الشعر، وأمهل العصر واملكانة اليت كان حيتلها الشاعر يف عصره "فوضع املولدين على قدم املساواة أيضاً من حيث اإلجادة، كما وضع القدامى على قدم املساواة أيضاً من حيث اخلطأ أحياناً وعدم اإلصابة، وأردا أن ينبه إىل أحكام رواة األدب بأهنم غري مصيبني، وأن أحكامهم يف شعر املولدين 18 غري مقبولة) (.

14 ) ( الجاحظ، عمر با بجر، : محمد عبد السالم هاروا، دار الجيل، بيروت، 1996، ج3، ص130. 15 ) ( رسدددائل الجددداحظ، الجددداحظ، دددد : عبدالسدددالم هددداروا، مك بددددة ال دددانجي، القددداهرة، 1964، ج2، مفددددا رة الجواري والغعماا، ص116. 16 ) ( البيددداا وال بيددداا، الجددداحظ، ددد : موفدددق شدددهاب الدددديا، دار الك دددب الععميدددة، بيدددروت، د2، 2003، ج3، ص19-18. 17 ) ( انظر، رسائل الجاحظ، الجاحظ، مرج سابق، ص117-116. 18 ) ( النقددد المنهجددي عنددد الجدداحظ، سددعوم، داود. مك بددة النهضددة العربيددة، دار الك دداب، بيددروت، د2، 1986، ص56.

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382 THE ANCIENT AND MODERN POSITION BETWEEN AL-JAHEZ AND IBN QUTAYBA 373

وهو ينعى عن أولئك الذين يتشدقون بألسنتهم ويعيبون الشعر احلدث، وال يعرتفون جبودته وحسنه، خصوصاً من الرواة الذي تقصر أفهامهم وأذواقهم عن متييز اجليد من الرديء، ولو أهنم نظروا بعني صادقة وحيادية يف هذا املوضوع، مليزوا اجلميل واحلسن بغض النظر عن العصر الذي قيل فيه " ولقد رأيت أناساً )منهم( يبهرجون أشعار املولدين ويستسقطون من رواها، ومل أر 19 ذلكقط إال يف رواية للشعر غري بصري جبوهر ما يروي، ولو كان له بصر لعرف موضع اجليد ممن كان، ويف أي زمن كان") (. يضع اجلاحظ معياراً دقيقاً للتفاضل بني القدمي واحلديث، وهذا املعيار يتضمن جمموعة من السمات واخلصائص الفنية، اليت إن اجتمعت يف الشعر كان الشعر جيداً وقوياً وحسناً سواء صدر من شاعر قدمي أم من شاعر حمدث، فاملعول على ذلك "إمنا يقع على إقامة الوزن، وختري اللفظ وسهولة املخرج، وكثرة املاء، ويف صحة الطبع، وجودة السبك، فإمنا الشعر صناعة، وضرب من النسج 20 وجنس من التصوير") (. لقد طبق اجلاحظ نظريته هذه أصدق تطبيق، فهو مل يتحيز إال للجيد من الشعر قدميه وحديثه، واملتتبع ملؤلفاته الكثرية، جيد أن األشعار اليت اختارها ووظفها ليست مقتصرة على عصر دون آخر، وعلى الشعراء القدماء دون احملدثني، بل وازن يف اختياراته بني القدمي واحملدث، وهو يف هذه االختيارات يوازن ويدقق ويصدر حكماً هلا أو عليها، مبيناً مواطن اإلجادة ومواطن القصور، ومن هذه النظرة فضل اجلاحظ أبا نواس وقدمه يف أبيات قاهلا على مهلهل بن ربيعة الشاعر اجلاهلي، يف أبيات له يف معناها، فقد وازن بني الشاهدين القدمي واحملدث، وهداه ذوقه وحسه الفين إىل تقدمي احملدث على القدمي، رغم علمه بأن هناك من سيقف يف وجه هذا القدمي واإلشادة باحملدث. يقول اجلاحظ: "وأبيات أيب نواس على أنه مولد شاطر، أشعر من شعر مهلهل يف إطراق الناس يف جملس 21 كليب") (. ومل يكتف اجلاحظ هبذا، بل اختار عشراً من الطرديات اليت قاهلا أبو نواس يف وصف كالب الصيد يرى بأهنا من أجود الشعر العريب يف هذا املوضوع، فجعله يف صدارة هذا الفن من القول، سواء تقدم أم تأخر، ومل يكتف باالختيار احلسن، بل علل اختياره هذا االعتماد على اجلودة واحلسن اللذين ظهر هبما هذا الشعر، فوصف أبا نواس "له معارف ال تعرفها األعراب، هذا مع جودة الطبع وجودة السبك، واحلذق بالصنعة، وإن تأملت شعره فضلته إال أن تعرتض عليك فيه عصبية، أو ترى أن أهل البدو )22( أشعر، وأن املولدين ال يقاربوهنم يف شيء، فإن اعرتض هذا الباب عليك، فإنك ال تبصر احلق من الباطل ما دمت مغلوباً" . ومنهذا النص اجلاحظي يتبني لنا فداحة اخلطأ يف املعيار الذي اعتمد عليه املنادون بتقدمي القدمي ألنه قدمي وكفى، دون النظر إىل النواحي الفنية اليت يتضمنها الشعر.

19 ) ( الحيواا، الجاحظ، ج3، ص130. 20 ) ( الحيواا، الجاحظ، ج3، ص131 – 132. 21 ) ( الحيواا، الجاحظ، ج3، ص129. 22 ) ( الحيواا، الجاحظ، ج2، ص27.

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382

374 Kawther Mahmoud Ali Obaid

ومن هنا فإن اجلاحظ مل يهضم النواسي حقه يف اإلعالن عن جيد شعره، بل وتفضيله على شعر القدماء، مبا امتلك من السمات واخلصائص اليت قصر عنها أولئك القدماء، ويؤكد على أن كل من مل ير فيه هذا اجليد فإنه مناف للحقيقة، متعصب للقدمي تعصباً أعمى، وال يوجد عنده ذائقة شعرية يف التمييز بني اجليد والرديء. ورغم العداء الشديد الذي كنه بشار للمعتزلة أصحاب اجلاحظ وأساتذته وآرائهم، إال أن هذا مل مينع اجلاحظ من اإلشادة الشديدة، واإلعجاب الكبري بشعره، بل قرنه بشعر األعشى من ناحية صوره الشعرية، وقدرهتما على التشبيهات املوفقة، وإلعجابه بشعره فقد أورد له أشعاراً كثرية مستجدة "وهكذا يعرب اجلاحظ عن موضوعيه فريدة يف أحكامه النقدية، سواء ما يتعلق منها بالقدماء أو 23 احملدثني، أو حىت أصحاب املذاهب املخالفة) (. ومن مظاهر اإلنصاف واالعتدال عند اجلاحظ، وتقدميه اجليد واحلسن بغض النظر عن منشئه عندما استعرض أقوال الشعراء يف نسر 24 لقمان، فذكر من جيد الشعر قول النابغة:) (

أضــــــــــــــــحت خــــــــــــــــالءً وأمســــــــــــــــى أهلهــــــــــــــــا احتملــــــــــــــــوا أخـــــــــــــــىن عليهـــــــــــــــا الـــــــــــــــذي أخـــــــــــــــىن علـــــــــــــــى لُبـــــــــــــــد

25 وقول لبيد) (:

ولقـــــــــــــــــــــــــد جـــــــــــــــــــــــــرى لبـــــــــــــــــــــــــد فـــــــــــــــــــــــــأدرك جريــــــــــــــــــــــــــه ريــــــــــــــــــــــــ ُب الزمــــــــــــــــــــــــان وكــــــــــــــــــــــــان غــــــــــــــــــــــــري مثفــــــــــــــــــــــــل

ملــــــــــــــــــــــــــــــــا رأى لُبــــــــــــــــــــــــــــــــد النســــــــــــــــــــــــــــــــور تطــــــــــــــــــــــــــــــــايرت رفـــــــــــــــــــــــــــــــع القـــــــــــــــــــــــــــــــوادم كـــــــــــــــــــــــــــــــالفقري األعـــــــــــــــــــــــــــــــزل ّ

وحىت ال يظن ظان أن اجلاحظ خيتار ما جاد من شعر القدماء، ويهمل شعر احملدثني يقول: "وإن أحسنت األوائل يف ذلك، فقد أحسن بعض احملدثني وهو اخلزرجي يف ذكر النسر وضرب املثل به وبلبد، وصحة بدن الغراب، حني ذكر طول عمر معاذ 26 بن مسلم بن رجاء وهو قوله:) (

إن معــــــــــــــــــــــــــــــــــاذ بـــــــــــــــــــــــــــــــــن مســــــــــــــــــــــــــــــــــلم رجــــــــــــــــــــــــــــــــــل قــــــــــــــــــــد ضــــــــــــــــــــ ج مــــــــــــــــــــن طــــــــــــــــــــول عمــــــــــــــــــــره األبــــــــــــــــــــُد

قــــــــــــــــــــــــد شــــــــــــــــــــــــاب رأس الزمــــــــــــــــــــــــان واختضــــــــــــــــــــــــب الـــــــــــــــــــــــــــــــــــدهر وأثـــــــــــــــــــــــــــــــــــواب عمـــــــــــــــــــــــــــــــــــره جــــــــــــــــــــــــــــــــــــدد

يـــــــــــــــــــا نســــــــــــــــــر لقمــــــــــــــــــان كــــــــــــــــــم تـــــــــــــــــــعي وكــــــــــــــــــم تلـــــــــــــــــــــــــــــبس ثـــــــــــــــــــــــــــــوب احليــــــــــــــــــــــــــــــاة يـــــــــــــــــــــــــــــا لُبـــــــــــــــــــــــــــــُد

23 ) ( الجاحظ والنقد األدبي، نجم، وديعة دح، ص57-56. 24 ) ( الحيواا، الجاحظ، ج6، ص326. 25 ) ( الحيواا، الجاحظ، ج6، ص326. 26 ) ( الحيواا، الجاحظ، ج6، ص327.

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382 THE ANCIENT AND MODERN POSITION BETWEEN AL-JAHEZ AND IBN QUTAYBA 375

ويف موطن آخر يشيد بشعر مسلم بن الوليد يف ذكر الطيور فيقول" وقد أكثر الشعراء يف هذا الباب )باب الثعالب 27 والنسور والضباع( حىت أطنب بعض احملدثني وهو مسلم بن الوليد، فقال) (: يكســــــــــــــــــــــــــو الســــــــــــــــــــــــــيوف نفــــــــــــــــــــــــــوس النــــــــــــــــــــــــــاكثني بــــــــــــــــــــــــــه وجيعــــــــــــــــــــــــــــــل اهلــــــــــــــــــــــــــــــام تيجــــــــــــــــــــــــــــــان القنــــــــــــــــــــــــــــــا الـــــــــــــــــــــــــــــــذبل

قـــــــــــــــــــــــــد عـــــــــــــــــــــــــود الطـــــــــــــــــــــــــري عـــــــــــــــــــــــــادات وثقـــــــــــــــــــــــــن هبـــــــــــــــــــــــــا فهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن يتبعنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه يف كـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل مرحتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل

من كل ما سبق فاجلاحظ كان صادقاً مع نفسه، وصادقاً مع املبدأ احليادي الذي سار عليه، وصادقاً مع العدل واإلنصاف، فلم يقل يف الشعر والشعراء إال ما فيهم، فأعطي كل شاعر ما يستحق، ال لكون هذا الشاعر عربياً وذلك مولداً، وال هذا جاهلياً وذاك إسالمياً، وال هذا مرغوباً يف عقيدته وذاك خمالفاً لعقيدته وفكره، بل لكون الشعر يعلن عما به من مجال وجوده، أو قبح ورداءة.

لماذا اتجه الجاحظ إلى االعتدال في قضية القدم والحداثة مربناأن اجلاحظ مل يكن من دعاة القدمي وااللتزام مبسلكهم، ومل يتعصب هلم، ويف الوقت نفسه مل يقف مع احملدثني الذين عاصروه، بل اختذ موقفاً وسطاً بني دعاة احملافظة على القدمي ودعاة التجديد والتغيري. وقد يكون من أهم األسباباليت حدت به الختاذ هذا املوقف املعتدل من هذه القضية هو فكره االعتزايل الذي كان اجلاحظ من أبرز منظريه والدعوة إليه، فقد كان موقف اجلاحظ هذا صدى هلذا الفكر من ناحيتني: األولى: تقدمي العقل على النقل: فلم يكن اجلاحظ ناقداً تقليدياً يأخذ آراءه من اآلخرين على عالهتا دون مناقشة أو حتليل الختاذ موقف منها، فكان يدقق يف هذه اآلراء، ويعرضها على ميزان عقله وفكره وثقافته، فما الءمه أخذ به دون أن يكون صورة عنه، وما مل يالئمه يطرحه وينقده ويبني مدى اخلطأ فيه، وينجلي هذا بوضوح يف موقفه من شعر احملدثني، خمالفاً 28 آراء النقاد التقليديني الذين عابوه، ومل يكرتثوا لوجوده) (. الثانية: املنزلة بني املنزلتني: وهو املوقف املعتدل الذي اختذه املعتزلة يف حكم الفاسق يف الدنيا هل يسمى مؤمناً أم ال، ويبدو التأثر هبذا الفكر واضحاً يف موقف اجلاحظ من قضية القدمي واحملدث، فعندما يتحدث اجلاحظ عن الشعر القدمي حنس أنه منحاز إليه، وعندما يتحدث عن احملدث ال تشك للحظة أنه منحاز إليه، ولكن احلقيقة أن اجلاحظ مل ينحز ال إىل هذا والإىل ذاك، بل احناز إىل الشعر اجلميل الراقي احلسن الذي تطرب له اآلذن وميأل العقول والقلوب، بصرف النظر عن قائله، فقد أشاد بالشعر القدمي مثلما أشاد بالشعر احملدث، ويف الوقت نفسه عندما انتقد بعض احملدث وأبان عن عيوبه

27 ) ( الحيواا، الجاحظ، ج6، ص324. 28 ) ( انظر: الجاحظ والنقد األدبي، نجم، وديعة دح، حوليات كعية اآلداب، جامعة الكويت، الحوليدة العاشدرة، 1988، ص9.

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382

376 Kawther Mahmoud Ali Obaid

مل يسلم الشعر القدمي من نقده، وهكذا مهد اجلاحظ الطريق لتغيري النظرة النقدية لكل من القدمي واجلديد، وعمل على تغيري معايري املفاضلة عند النقاد وحيث برز هذا املنهج واضحاً عند مجيع النقاد الذين جاءوا بعده. فهذان املبدآن من مبادئ املعتزلة كان هلما الدور الكبري يف نظرة اجلاحظ إىل القدماء واحملدثني. 2.اجلاحظ من املعتزلة بل من شيوخ املعتزلة، ومن ضمن املبادئ األساسية اليت اعتمدوها يف احلكم على الشعر إمياهنم )29( الراسخ "بأن الشعر العريب من مصادر املعرفة الكربى ووعاء هلا" ، ومن هنا فليس من الصواب أن يتخذ اجلاحظ موقفاً منحازاً إىل القدمي أو احلديث إلرضاء طائفة على أخرى، أو معاندة جهة على حساب جهة أخرى، بل اختط هذا النهج وفق ما حيقق له إميانه واعتقاده، فلو حنا املنحى الذي يسريه أصحاب القدمي، لفاته كثري مما جاء به احملدثون من معارف عامة، وملا استطاع أن يغين املكتبة العربية هبذه الكتب القيمة والعظيمة، وكذلك لو احتقر القدمي والذ باحملدث الذي جاء به شعراء عصره ونقاده لفاته علم ال يعوض، ومن هنا فإن اعتبار اجلاحظ الشعر من مصادر املعرفة حتم عليه أن يأخذ هذه املعرفة من أي مصدر كان سواء كان قدمياً أم حديثاً. 3. يعد اجلاحظ من أكثر علماء عصره ونقادهم يف االطالع على الثقافات املختلفة، والتأثر هبا، فهو رجل ميلك ذوقاً خاصاَ، وثقافة شاملة، وملكات عقلية متنوعة، تأثر بالثقافات األجنبية اليت دلقت إىل الثقافة واحلضارة العربية، ورأى – حبسه املرهف – ماهلذه الثقافات من دور يف تطوير املأثور من القدمي دون التخلي عنه، وحاجة اجملتمع احلضري اجلديد إىل مواكبة األدب ملثل هذه التطورات، واالبتعاد عن التمسك بالقدمي وصوره، بل تطويرها مبا يناسب البيئة اجلديدة، ومن هذا املنطلق يتحاشى أن تنحاز ثقافته ومعرفته وذوقه إىل جهة دون أخرى، وهو العامل الذي حيتاج اىل كل شيء ملواكبة تطوره الثقايف واالستزادة منه، فلذلك اختذ هذااملوقف التوفيقي بني القدمي واجلديد، فاحلنني إىل القدمي واإلعجاب به ال يعين أنه تناسى اجلديد وما به من حماسن ومعارف وجودة ، رمبا ال يقل عن القدمي يف شيء إن مل تكن أمجل منها وأحسن. 4.مل يكن اجلاحظ متخصصا دقيقا يف حقل من حقول املعرفة، بل هو موسوعة علمية اشتهر يف كل فن، وختصص بكل أنواع املعارف، فهو أديب ومتكلم وناقد اجتماعي وناقد أديب ومؤرخ، وفيلسوف، اطلع على م علواألمم األخرى، وتأثر هبا، فخرج هذا العقل النري الذي ال يتقوقع حول فكرة يناطح غريه ويتزمت عندها. 5. ينبغي ملن يتوىل مهمة النقد ان ال يكتفي بأدوات الناقد القدمي من معرفة باللغة والنحو والبالغة فحسب، ألنه بذلك يكشف عن خطأ اللفظة، او اكتشاف ركاكة العبارة، بل عليه أن يتسلح بثقافة عامة جتعله يف مستوى يؤهله إىل فهم األثر األديب، حىت ال يغيب عنه جانب من جوانبه، إىل جانب هذه البديهيات جيب عليه أن يكون ذا شخصية تتمتع بالذوق والذكاء والشجاعة 30 ، وتلم بعلم النفس وعلم االجتماع والفلسفة واملنطق وتاريخ الفكر، وتعتمد على علم اجلمال) (، واذا دققنا النظر يف هذه السمات وجدنا أكثرها يتوفر يف شخصية اجلاحظ املوسوعة، وشخص حيمل كل هذه املؤهالت، وهو مل حي و كل هذه املؤهالت ليقول للناس أن القدمي هو األفضل جملرد أنه قدمي دون توضيح أكثر لألسباب اليت جتعله مييل اىل ذلك أو العكس.

29 ) ( اريخ النقد األدبي عباس، إحساا، عند العربي، ص56. 30 ) ( انظر: البالغة الشعرية في ك اب البيداا وال بيديا، صدبا،، محمدد ععدي ،كدي، المك بدة العصدرية، صديدا، بيروت، ص1، 1988، ص86-85.

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382 THE ANCIENT AND MODERN POSITION BETWEEN AL-JAHEZ AND IBN QUTAYBA 377

موقف ابن قتيبة من القديم والحديث يؤكد ابن قتيبة املنهج الذي يسري مبقتضاه عندما يقف حكما بني الشعر القدمي والشعر احملدث، فهو لن يتأثر باألقوال واالثار السابقة اليت صدرت عن علماء اللغة وحناهتا، وحىت النقاد الذين سبقوه كابن سالم مثال يف طبقاته الذي يشري تقسيمه للشعراء بالطريقة اليت قسمهم هبا باستثناء احملدثني من اإلجادة يف قول الشعر، فهو لن يكون تابعا ألحد منهم، وما يصدر عنه من آراء فهي آراء شخصية مستقلة عن أي تأثري خارجي، أمالها الواقع الذي كان يعيشه. فأحكامه سوف تكون جمردة من أية اعتبارات أخرى غري النص الذي أمامه، فالنص نفسه هو الذي يكشف أن كان هذا الشعر حسنا، جيدا أو غري ذلك. فقد خاض السابقون كثريا يف هذه القضية – قضية القدم واحلداثة- يف أيهما أحسن وأمجل، القدمي مبا له من هيبة وقداسة، أم اجلديد مبا فيه من خفة ورشاقة، ومل يصلوا إىل قرار قاطع، فالكل مغمض عينيه عن اجلوانب املضيئة واملشرقة يف اجلانب اآلخر، وال يرى إال القبح فيها، والكل مصر على رايه ويدافع عنه، يصيب حينا وخيطئ أحيانا، فجاء ابن قتيبة ليديل بدلوه يف هذه القضية ويقف على احلياد، فينصب من نفسه قاضيا عادال، ينظر بعني العدل واالنصاف إىل الفريقني، فيعطي كل ذي حق حقه، مستثنيا متاما املعيار السابق الذي كان سائدا وهو القدمي من حيث هو قدمي فقط، واحملدث كونه حمدثا وكفى، ليزيل من العقول املتعصبة اليت ترى يف القدمي اهليبة واجلاللة والقداسة، وتنظر اىل احملدث نظرة تعال وريبة" فإن أصابوا فقد سبقوا إليه وإن اخطأوا فمن أنفسهم". ينادي ابن قتيبة بالفصل بني الشعر وزمن قائله، فال حيكم على الشعر بالقبول واالستحسان الن قائله يعي يف زمن معني، بل جيب أن حيكم له أو عليه جلودته أو لقبحه، أن يقدر مبقدار ما حوى من عناصر اجلمال اليت تسمو به ومتيزه عن سواه. فهو مع الشعر اجليد بغض النظر عن زمانه وقائله، فهو يقرر أن " النص األديب ينبغي أن يقدر مبقدار ما حوى من عناصر اجلمال اليت تسمو به، ومتيزه عن سواه، وصرف النظر عن سائر االعتبارات األخرى، فال ينظر إىل قائله، وال يقدر على 31 حسب قائله، بل يكون االستحسان واالستهجان مبنيا على التذوق الشخصي وعدم التأثر بآراء الغري") (. يتبدى هذا من قول ابن قتيبة يف مقدمة كتابه الشعر والشعراء عندما يؤكد انه مل يسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر خمتاراله، سبيل من قلد أو استحسن باستحسان غريه، وال نظرت إال املتقدم بعني اجلاللة لتقدمه، وال إىل املتأخر منهم بعني 32 االحتقار لتأخره، بل نظرت بعني العدل على الفريقني، واعطيت كال حظه، ووفرت عليه حقه") (. وهو هبذا يشري اىل ما سار عليه العلماء والنقاد الذين سبقوه، وجعلوا من القدمي معيارا اوحدا ضيقا جامدا جيايف احلقيقة واجلمال الشعري، لتفضيل الشعر واإلشادة به وبشاعره، وينأى ابن قتيبة بنفسه عن هذا املنهج الذي خيالف طبيعة التطور الذي يصيبالشعر كغريه من أسباب احلضارة األخرى وطبيعة املعارف اإلنسانية اليت خص اهلل هبا اجلميع، ومل حيصرها يف زمن معني

31 ) ( دراسات في نقد الشعر األدبي، دبانح، بدوي، دار الثقافة، بيروت، د6، 1974، ص214. 32 ) ( الشعر والشعراء، ابا ق يبة، : احمد محمد شاكر، دار المعارف، مصر، 1966، ص63-62.

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382

378 Kawther Mahmoud Ali Obaid

وأشخاص بأمسائهم "وإين رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر لتقدم قائله، ويضعه يف متخريه ، ويرذل الشعر الرصني، وال عيب 33 عنده إال أنه قيل يف زمانه ، أو أنه رأى قائلة") (. فاجلودة والفضل واحلسن يف الشعر، وال خيص عصر دون عصر، فال خيلو عصر من وجود الشاعر اجمليد اىل جانب الشاعر الرديء، فاجلودة والرداءة تعود إىل الشاعر نفسه والشعر الذي ينشده، وليس إىل العصر "ومل يقصر اهلل الشعر والعلم والبالغة )34( على زمن دون زمن، وال خص به قوماً دون قوم، بل جعل ذلك مشرتكاً بني عباده يف كل دهر" . لقد أعلن ابن قتيبة أنه مع الشعر احلسن، ومل جيعل للقدمي فضالً جملرد أنه قدمي، ومل يُنزل من قيمة احملدث كونه حمدثاً وكفى، ومل جيعل اعتباراً للمكانة والسن يف تقدمي أحدمها على اآلخر، ومن هنا يؤكد أن " كل من أتى حبسن من قول أو فعل ذكرناه له، وأثنينا عليه به، ومل يضعه عندنا تأخر قائله، وال حداثة سنه، كما أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف مل يرفعه عندنا 35 شرف صاحبه وال تقدمه") (. يتبادر إىل الذهن ألول وهلة أن ابن قتيبة وقع يف تناقض صارخ عندما أعلن يف كتابه الشعر والشعراء أنه "ليس ملتأخر الشعراء أن خيرج عن مذهب املتقدمني يف هذه األقسام، فيقف على منزل عامر، أو يبكي عند مشيد البنيان، ألن املتقدمني وقفوا على املنزل الدائر والرسم العايف أو يرحل على محار أو بغل ويصفهما ألن املتقدمني رحلوا على الناقة والبعري، أو يرد على ملياه العذاب اجلواري ألن املتقدمني وردوا على األواجن الطوملي، أو يقطع إىل املمدوح منابت النرجس واآلس والورد، ألن املتقدمني جروا 36 على قطع منابت الشيح واحلنوة والعرارة") (. فاملعىن الظاهر من وراء قول ابن قتيبة أنه يقف موقفاً صلباً ضد التجديد والتغري يف منط القصيدة اجلاهلية، فال جييز للمتأخرين من الشعراء أن خيرجوا على مذهب املتقدمني. إال أن ما قصده ابن قتيبة ودعا إليه أن ال تسري القصيدة عن الواقع الفكري والثقايف واحلضاري الذي بعيشه الشاعر احملدث. ويطلب إليه أن ال تتماها قصيدته مع قصيدة القدمي يف أقسامها: الوقوف على األطالل ومناجاة احلبيبة والنسيب والرحلة مث الوصول إىل املمدوح حىت لو جلأ إىل تبديل صورة جديدة منتزعة من الواقع الذي عاشه القدماء، كأن يبكي على القصور بدالً من بكاءه على األطالل، وال يرحل على محار أو يغل بدل من الناقة وال يقطع إىل املمدوح ويف يده الورد والنرجس بدالً من الشيح، فهذا ليس جتديداً بل تغيري ديباجة جديدة بأخرى قدمية، يؤكد هذا ما أشار إليه ابن قتيبة عندما حظر على احملدثني اتباع القدماء يف

33 ) ( الشعر والشعراء، ابا ق يبة، ص63. 34 ) ( الشعر والشعراء، ابا ق يبة، ص63. 35 ) ( الشددعر والشددعراء، ابددا ق يبددة، دار إحيدداء الععددوم، راجعددح و عددد فهارسددح محمددد عبددد المددنعم العريدداا، د2، 1986، ص 63 - 64. 36 ) ( الشعر والشعراء، ابا ق يبة، ص32.

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382 THE ANCIENT AND MODERN POSITION BETWEEN AL-JAHEZ AND IBN QUTAYBA 379

استخدام بعض األلفاظ اليت تدل البيئة اجلاهلية املختلفة متاماً عن البيئة احلضرية" وليس للمحدث أن يتبع املتقدم يف استعمال 37 وحشي الكالم، الذي مل يكثر، ككثري من أبينة سيبويه، واستعمال اللغة القليلة يف العرب") (. فالشاعر إذا طمح إىل التجديد وسعى إليه فيجب أن يطال التجديد القصيدة برمتها بناء ً وفكراً ومعىن فال يلجأ إىل الشكل والبناء القدمي ويقحم فيه معا ٍن خمتلفة عما جاء هبا القدماء، ومبا تفرضها طبيعة احلياة واحلضارة اجلديدة، وإذا ما أراد الشاعر احملدث أن يتبع هذا األسلوب القدمي فال خيرج عن كونه اعرتاف به وثناء عليه ورمز من رموز األدب العريب الذي يعتز به الشاعر. ومجلة القول أن ابن قتيبة يرى أن الشاعر احملدث إذا أراد أن يغري صورة بصورة فقط األوىل أن حيافظ على الصورة اهليكلية للقصيدة اجلاهلية ألهنا صورة تنطق باملعاين اجلميلة والعبق الطيب وتشري إىل رموز خاصة عند اجلاهليني القدماء، ويبعد عن 38 استحضار صورة خالية من تلك املعاين) (.ومن هنا ال تناقض أو اضطراب يف منهج ابن قتيبة ونظرته إىل القدمي واحملدث. مل يتوقف ابن قتيبة عند الشعراء القدماء وحسب كما فعل ابن سالم الذي أخرج احملدثني من طبقاته وكأهنم خارج تاريخ )39( الشعر العريب وأطواره املتتابعة، بل ترجم ملن ُمسوا ُباحملدثني واقتبس من شعرهم، وسجل مالحمهم العامة يف حياد علمي هادئ. . واملتتبع لرتاجم ابن قتيبة من الشعراء واحملدثني يالحظ مدى احتفائه هبم عندما خيتار من أشعارهم فتجده يعلي من قيمة اجمليدين منهم وينتصر هلم ويدافع عنهم، فأبو نواس يف رأي ابن قتيبة "أحد املطبوعني ... وكان متفنناً يف العلم، قد ضرب يف كل نوع 40 منه بنصيب") (. ومن إعجاب ابن قتيبة له أنه كان يشري إىل املعاين اللطيفة اليت سبق إليها أبو نواس سائر الشعراء، من مثل قوله يف 41 إبليس) (.:

د ّب لــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه إبلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيس فاقتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاده والشـــــــــــــــــــــــــــــــــيخ نفـــــــــــــــــــــــــــــــــاع علـــــــــــــــــــــــــــــــــى لعنتـــــــــــــــــــــــــــــــــه

عجبـــــــــــــــــــــــــــت مـــــــــــــــــــــــــــن إبلـــــــــــــــــــــــــــيس يف تيهـــــــــــــــــــــــــــه وعظـــــــــــــــــــــــــم مـــــــــــــــــــــــــا أظهـــــــــــــــــــــــــر مـــــــــــــــــــــــــن وتـــــــــــــــــــــــــه

تـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاه علـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى آدم يف ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــجدٍة وصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــار قـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــواداً لذريتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه

وأثىن على كثري من األشعار اليت يرى أنه له قصب السبق إليها باإلضافة إىل املعاين اجلميلة ومن مظاهر إعجاب ابن قتيبة بأيب نواس ومسلم بن الوليد أئمة التجديد والسخرية من القدمي موقفه من الشعر الذي طعن كل منهما بصاحبه وأظهر عيوبه، فقد

37 الشعر والشعراء، ابا ق يبة، : حمد محمد شاكر، ص101. ) ( 38 ) ( انظر: اريخ النقد األدبي عند العرب، عباس، إحساا، مرج سابق، ص101-100. 39 ) ( انظر: مقدمة النقد األدبي، عبداهلل، محمد حسا، دار البحوث الععمية، 1975، ص539. 40 ) (ا لشددعر والشددعراء، ابددا ق يبددة، دار إحيدداء الععددوم، راجعددح واعددد فهارسددح محمددد عبددد المددنعم العريدداا، د2، 1986، ص544. 41 ) ( الشعر والشعراء، ابا ق يبة، المرج السابق، ص557.

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382

380 Kawther Mahmoud Ali Obaid

عقب ابن قتيبة على البيتني مدار املالحاة بينهما فقال "والبيتان مجيعاً صحيحان، وال عيب فيهما، غري أن من طلب عيباً وجده أو )42( أراد إعناتاً قدر عليه، إذا كان متحامالً متحيناً غري قاصد للحق واإلنصاف" . ومن هذا الكالم البن قتيبة تراه وقد نصب نفسه دافعاً عن احملدث، مقلالً من قيمة ما كان يرمي به احملدثون من قبل املتعصبني للقدمي، وكأنه يقول: أن نظرة املتعصبني إىل القدمي تنقصها املوضوعية واحليادية، وفيها من التحامل الواضح الذي ال يقوم على أسس عادلة. ويف الوقت الذي أشاد بشعر احملدثني، فإن شعر القدماء مل يسلم من نقده وإبداء املالحظات املوضوعية عليه، فمن نقده 43 للشعر القدمي الذي مل يوافق ذوقه قول املرق ) (: هــــــــــــــــــــــــــل بالــــــــــــــــــــــــــديار أن جتيــــــــــــــــــــــــــب صــــــــــــــــــــــــــمم لـــــــــــــــــــــــــــــــــــو أن ناطقـــــــــــــــــــــــــــــــــــاً حيـــــــــــــــــــــــــــــــــــاً كلّــــــــــــــــــــــــــــــــــــم

يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــأ الشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــباب األقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــورين وال تغــــــــــــــــــــــــــــبط أخــــــــــــــــــــــــــــاك أن يقــــــــــــــــــــــــــــال حكــــــــــــــــــــــــــــم

فيقول فيه: والعجب عندي أن األصمعي إذ أدخله يف متخريه، وهو شعر ليس بصحيح الوزن، وال حسن الروي، وال متخري اللفظ، وال لطيف املعىن، وال أعلم فيه شيئاً يستحسن إال قوله:

النشــــــــــــــــــــــــــر مســــــــــــــــــــــــــك والوجــــــــــــــــــــــــــود دنــــــــــــــــــــــــــا نـــــــــــــــــــــــــري وأطـــــــــــــــــــــــــراف األكـــــــــــــــــــــــــف َعـــــــــــــــــــــــــنَم

يرى ابن قتيبة أن احلكم على جودة الشعر أو عدمه يقف وراءه جمموعة من االعتبارات، وهذه االعتبارات ليست مقصورة على القدماء، فهي مشاع يشرتك فيها القدمي واحملدث "فليس كل الشعر خيتار على جودة اللفظ واملعىن ولكنه قد خيتار 44 وحيفظ على أسباب منها اإلصابة يف التشبيه") (. مث يورد أشعاراً لقدماء وحمدثني يرى أهنم قد أصابوا هبا التشبيه وأجادوا، فالشاعر إذا أصاب التشبيه فهو مقدم سواء قدمياً أو حمدثاً، وهذا هو العدل عينه الذي أخذ به نفسه يف احلكم على القدمي واحلديث، وهو هبذا قد عدل من ظلم املعيار الذي اختذه القدماء يف احلكم على جودة الشعر. )45( ويقول يف موضع آخر" وقد حيفظ وخيتار على خفة الروي" وذكر أشعاراً " وقد خيتار وحيفظ أن قائله مل يقل غريه. 46 أو ألن شعره قليل عزيز كقول عبداهلل بن ايب سلول املنافق") (:

42 ) ( الشعر والشعراء، ابا ق يبة، ص550. 43 ) ( الشعر والشعراء، : محمد عبد المنعم العرياا، ص30. 44 ) ( الشعر والشعراء، ابا ق يبة، ص37. 45 ) ( السابق، ابا ق يبة، ص37. 46 ) ( السابق، الصفحة نفسها.

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382 THE ANCIENT AND MODERN POSITION BETWEEN AL-JAHEZ AND IBN QUTAYBA 381

مـــــــــــــىت مـــــــــــــا يكـــــــــــــن مـــــــــــــوالك خصـــــــــــــمك ال تـــــــــــــزل تـــــــــــــــــــــــــــذ ل ويعلـــــــــــــــــــــــــــوك الـــــــــــــــــــــــــــذين تصـــــــــــــــــــــــــــارع

وهــــــــــــــــــــل يــــــــــــــــــــنهض البــــــــــــــــــــازي بغــــــــــــــــــــري جناحــــــــــــــــــــه وإن قـــــــــــــــــــ ّص منـــــــــــــــــــه ريشـــــــــــــــــــه فهـــــــــــــــــــو واقـــــــــــــــــــ ُع

47 "وقد خيتار وحيفظ ألنه غريب يف عناه كقول أحدهم يف جموسي") (: هنــــــــــــــــــــــــــــــدت عليـــــــــــــــــــــــــــــــك بطيـــــــــــــــــــــــــــــــب املشـــــــــــــــــــــــــــــــا وأنــــــــــــــــــــــــــــــــــك حبــــــــــــــــــــــــــــــــــر جــــــــــــــــــــــــــــــــــواد خضــــــــــــــــــــــــــــــــــم

وأنــــــــــــــــــــــــــــــــــــك ســــــــــــــــــــــــــــــــــــيد أهــــــــــــــــــــــــــــــــــــل اجلحــــــــــــــــــــــــــــــــــــيم إذا مـــــــــــــــــــــــــــــــا ترديـــــــــــــــــــــــــــــــت فـــــــــــــــــــــــــــــــيمن ظلـــــــــــــــــــــــــــــــم

قـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرين هلامـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان يف قعرهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا وفرعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون واملكتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــىن بــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاحلكم

48 "وقد خيتار وحيفظ لنبل قائله كقول املأمون يف رسول") (

بعثتـــــــــــــــــــــــــــــك مشـــــــــــــــــــــــــــــتاقاً فغــــــــــــــــــــــــــــــرت بـــــــــــــــــــــــــــــــنظرة وأغفلتـــــــــــــــــــــين حـــــــــــــــــــــّىت أســـــــــــــــــــــأت بـــــــــــــــــــــك الظــــــــــــــــــــــنّا

وناجيـــــــــــــــــــت مـــــــــــــــــــن أهـــــــــــــــــــوى وكنـــــــــــــــــــت مقّربـــــــــــــــــــا ً فيـــــــــــــا ليـــــــــــــت شـــــــــــــعري عـــــــــــــن دنـــــــــــــوك مـــــــــــــا أغـــــــــــــىن

ورّددت طرفـــــــــــــــــــــــــــــــــاً يف حماســـــــــــــــــــــــــــــــــن وجههـــــــــــــــــــــــــــــــــا ومتعـــــــــــــــــــــــــــــت باستمــــــــــــــــــــــــــــــاع نغمتهـــــــــــــــــــــــــــــا أذنــــــــــــــــــــــــــــــا

أرى أثــــــــــــــــــــــــــراً منهــــــــــــــــــــــــــا بعينيــــــــــــــــــــــــــك مل يكــــــــــــــــــــــــــــن لقــــــــــــــد ســــــــــــــرقت عينــــــــــــــاك مــــــــــــــن وجههــــــــــــــا حســــــــــــــنا

لقد جاء ابن قتيبة بكل هذا احلسن واجليد، واختار قائليه من القدماء واحملدثني، ليثبت للفريقني كليهما أن اجلميل واجليد من الشعر ال خيص فئة دون اخرى، أو زمن دون آخر، فكما أجاد القدماء وأحسنوا، فقد اجاد احملدثون وأحسنوا بالقدر نفسه، أليس ما قاله ابن سلول املنافق الذي يعد قدمياً يف غاية الروعة واجلمال يف موضوعه، مث أليس ما قاهلل املأمون احملدث يف قمة الروعة واجلمال يف موضوعه أيضاً؟ إذا كان ذلك كذلك، فلماذا هذا التعصب للقدمي والتحزب للمحدث، ما دام الشعر اجلميل ليس له وطن أو عصر أو أب إال بقدر اجلودة اليت جاءت به، وإذا كان أصحاب القدمي ا أشادوبالشعراء املتكلفني وبشعرهم لشد عنايتهم به، فإن ابن قتيبة ال

47 ) ( الشعر والشعراء، ابا ق يبة، : العرياا، ص38. 48 ) ( الشعر والشعراء، ص39.

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382

382 Kawther Mahmoud Ali Obaid

جيعل هذا معياراً صائباً دائماً، فبعض التكلف ينزل بصاحبه من طول التفكر وشدة العناء ورشح اجلبني وكثرة الضرورات وحذف ما 49 باملعاين حاجة إليه وزيادة ما باملعاين غىن عنه") ( وضرب أمثلة على شعر املتكلفني من القدماء وقد ظهر فيه التوعر. ومما يدل على صدق نظرة العدل واإلنصاف اليت ادعى ابن قتيبة أنه سيسري هبداها، وأنه سيختار الشعر اجليد بغض النظر عن قائله، مقارنته بني شعر قدمي وشاعر حمدث" فكان الناس يستجيدون لألعشى قوله: وكـــــــــــــــــــــــــــــأس شربـــــــــــــــــــــــــــــت علــــــــــــــــــــــــــــى لـــــــــــــــــــــــــــــّذة وأخــــــــــــــــــــــــــــــــرى تــــــــــــــــــــــــــــــــداويت منهــــــــــــــــــــــــــــــــا هبـــــــــــــــــــــــــــــــــا

حىت قال أبو نواس:

دع عنــــــــــــــــــــك لــــــــــــــــــــومي فـــــــــــــــــــــإن اللــــــــــــــــــــوم إغـــــــــــــــــــــراء وداوين بـــــــــــــــــــــــــــــاليت كانـــــــــــــــــــــــــــــت هـــــــــــــــــــــــــــــي الـــــــــــــــــــــــــــــّداء

فسلخه وزاد فيه معىن آخر، اجتمع له باحلسن يف صدره وعجزه، فلألعشى فضل السبق إليه وأليب نواس فضل الزيادة 50 فيه") ( هذا هو العدل واإلنصاف عينه، الصادر من ناقد فقيه، مل يؤثر فيه ما عرف به أبو نواس من احنراف وجتاوز عن أن ينصفه وحيكم له باإلجادة. ومن األسباب اليت دفعت ابن قتيبة إىل تتبين موقف العدل واإلنصاف عند النظر إىل القدمي واحلديث مث احلكم لكل منهما أو عليهما، أن ابنقتيبة فقيه متأثر بروح اإلسالم، مييل حنو املساواة ومبدأ اإلسالم "إن أكرمك عند اهلل أتقاكم" فهذا املبدأ املتحرر من كل اعتبار آخر إال التقوى، أخذه ابن قتيبة وطبقه على الشعر، فلم يعتمد املوروث الذي قدسه اآلخرون، ورفضوا اخلروج عليه واعتباره احلسن اجليد دون ه، غريفابن قتيبة له ذوقه اخلاص الذي ينبع ذائقته هو، وليس ما يردده اآلخرون، واعتماده دون تفكري أو إعمال نظر، فابن قتيبة اختذ هذا العقل املتزن، ومل يفضل قدمياً على جديد إال مبا حواه من حسن ومجال يعود إىل أنه فقيه يف 51 الدين عامل باللغة، ورأيه منسجم مع رأي الدين الذي يدعو إىل الوسطية يف مثل هذه األمور.) ( لقدنظر ابن قتيبة اىل ما كان جيري على الساحة النقدية من احنياز إىل القدمي أو احلديث والتعصب هلما ورأى أن كال اجلانبني قد احنرف عن الصواب باختاذه موقفاً أساسه اهلوى والتشيع لفكرة أو رأي حمدد والبعد عن الروح العلمية اليت جيب أن تكون حاضرة يف مثل هذه املواقف، فرأى أنه من أراد التصدي لقضية كبرية كالنقد عليه أن يتسلح باملرونة وروح العلم الذي يقتضي من الناقد أن يكون متجرداً من كل هوى أو ميل عاطفي، إذا أراد أن يكون له دور مؤثر يف الساحة النقدية، لذلك اختذ ابن قتيبة يف منهجه النقدي سبيل العلم يف الدقة والتحديد حبيث حيلل الشعر إىل عناصره، وحصر حاالت كل عنصر، وينظم ما عرف من اآلراء واألفكار اليت سبقته يف هذا املضمار ليضعها يف أصول عامة وقواعد عامة، ليستخلصها الناقد من حبثه الدقيق لتكون ضوابط وقيوداً 52 حمدودة وحمصورة يسهل عليه أن حيللها ويتذوقها، وبالتايل حيكم عليها أو هلا) (.

49 ) ( الشعر والشعراء، ابا ق يبة، ص40. 50 ) ( الشعر والشعراء، ابا ق يبة، ص73. 51 ) ( النقد المنهجي عند العرب، مندور، محمد، دار نهضة مصر، الفجالة، القاهرة، ص23. 52 ) ( انظر: اريخ النقد األدبي، ابراهيم، دح حمد، ص117.

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382 THE ANCIENT AND MODERN POSITION BETWEEN AL-JAHEZ AND IBN QUTAYBA 383

كان ابن قتيبة عاملاً موسوعياً، مل يقتصر على علم حمدد، فهنو فقيه وعامل له حظ كبري من العلوم الشرعية والدينية، وله عناية باألدب واللغة والثقافات األجنبية اليت انتشرت يف عصره، ومن ميتلك تلك املعارف والعلوم والثقافات ال بد أن يكون له ذوق خاص إذا أراد أن يتصدى للنقد األديب. باإلضافة إىل ما سبق فإن ابن قتيبة قد سار على النهج نفسه الذي سار عليه اجلاحظ الذي يعترب حبق أول من نادى بالنظرة املوضوعية عند النظر إىل الشعر ومتييزه جيده من سواه ورجل كاجلاحظ مبا متيز به ال بد أن يكون قدوة ملن جاء بعده، وهو ما مت بالفعل.

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382

384 Kawther Mahmoud Ali Obaid

المصادر والمراجع:

1. إبراهيم، طه أمحد. تاريخ النقد األديب عند العرب من العصر اجلاهلي إىل القرن الرابع اهلجري، دار الكتب العلمية، بريوت، ط3، 2003. 2. ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تح: أمحد حممد شاكر، دار املعارف، مصر، 1966. 3. ابن قتيبة، الشعر والشعراء، دار إحياء العلوم، راجعه وأعد فهارسه حممد عبد املنعم العريان، ط2، 1986. 4. اجلاحظ، احليوان. تح: حممد عبد السالم هارون، دار اجليل، بريوت، 1996. 5. اجلاحظ، رسائل اجلاحظ، تح: عبد السالم هارون، مكتبة اخلاجني، القاهرة، 1964، ج2، مفاخرة اجلواري والغلمان. 6. اجلاحظ، عمرو بن حبر، البيان والتبيني، تح: موفق شهاب الدين، دار الكتب العلمية، بريوت، ط2، 2003. 7. اجلرجاين، القاضي علي بن عبد العزيز بن احلسن، الوساطة بني املتنيب وخصومه، تح: حممد ابو الفضل إبراهيم، وعلي حممد البجاوي، البايب احلليب، ط2، 1951. 8. سلوم، داود، النقد املنهجي عند العرب، مكتبة النهضة العربية، دار الكتاب، بريوت، ط2، 1986. 9. صباغ، حممد علي ذكي، البالغة الشعرية يف كتاب البيان والتبيني، املكتبة العصرية، صيدا، بريوت، ط1، 1988. 10. طبانة، بدوي. دراسات يف نقد الشعر األديب، دار الثقافة، بريوت، ط6، 1974. 11. طهو هند حسني، النظرية النقدية عند العرب حىت هناية القرن الرابع، دار الرشيد، اجلمهورية العراقية 1981. 12. عباس، إحسان. تاريخ النقد األديب عند العرب، دار الشروق، عمان، 2006. 13. عبداهلل، حممد حسن، مقدمة يف النقد األديب، دار البحوث العلمية، 1975. 14. مندور، حممد. النقد املنهجي عند العرب، دار هنضة مصر، الفجالة، القاهرة. 15. جنم، وديعة طه، اجلاحظ والنقد األديب، حوليات كلية اآلداب، جامعة الكويت، احلولية العاشرة، 1988.

International Journal of Language Academy Volume 7/2 June 2019 p. 365/382